
د. إشراقة مصطفى حامد
• في التصالح مع عذابات ذاكرتي الخاصّة، الخاصّة التي لا تنفصل عن الذاكرة العامّة، عن ذاكرة نساء منسيّات في تواريخنا، في حكاياتنا، في أغنياتنا، أهازيجنا، وأحاجي الطفولة.
كنت أشتاق في طفولتي لأحاجي مثل التي حكاها لي العم الزبير خميس عن أم حيطان/ عن جبال النوبة، لا أذكر تفاصيلها الآن ولكن ذاكرة الجبال التي كانت ترفّ في قلبه حمامات سلام، ظلّت في ذاكرتي، تنبض رغم اجتراحات ذاكرة الألم. الأحاجي التي شحنت خيالي الصغير بالرماد، بجمرات منسيّة صدحت بمسيرة الوعي، وأسئلة العصف الذهني.
حين قال لي ذات يوم: (أنتِ فيك من مندي) لم أكن أعرفها، ويالذاكرة البلاد المغيّبة!. كنت أظنّ إنّها إحدى الأساطير العذبة التي كان يحكيها لي كلّما قفزتُ بجسمي الصغير المنهك بالملاريا، نحوه حالما يعود بمنجله من تشذيب حدائق كوستي. عرفت أنّ اسمها الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا.
كبرتُ، وكبرتْ مساحة منفى داخلي، منفى هيّأني للمنفى الكبير، المنفى الذي لا يرتبط بالمكان بل حالة وجدانيّة صاحبتني منذ وجودي في السودان، في كوستي. أسافر في عوالم القمر في ليالي محاقه المكتمل بسيرة الناس المنسيّة.
مندي، رفيقتي في أسئلة سُلطة الذاكرة، وذاكرة السُلطة التي لم يُكتبْ عنها في كتب التاريخ. التاريخ الذي ساهم في تغبيش الوعي، لأنّ التاريخ الذي لا يكتبه الجميع، تاريخ مغيّب للواقع، للحقائق، الحقيقة التي لها وجوه متنوّعة كتنوّع السودان نفسه.
المعارف التي كسبتها في مسيرتي الطويلة في دورب المعرفة النقديّة، منذ أوّل كتاب إطّلعتُ عليه، ومروراً بانفتاح ذهني للآخر في العوالم الآخرى، وياله من ألم عظيم! أن نعترف أنّ هناك آخر مقموع، ولا ترفعُ صوتك شاهقاً في جسارة مندي العظيمة في مواجهتها للمستعمر البريطاني، المستعمر الذي ظلّ قابعاً في مكان ما، مكان يتحوّر وفقاً لسلطات السودان، سلطة الّلغة، والدين، والّلون، والقبيلة، والنوع.
هذه الذاكرة إن لم تُكتبْ سوف تزول، تزول بتعمّد من السلطات التي عملتْ على محو ذاكرة تفاصيل الحبّ، والحنان، الأمكنة، وأشواقها غيّرتْ حتّى أسماء الشوارع المرتبطة بالوجدان، وبالذاكرة.
وحتّى لا تضيع الذاكرة في دهاليز سياسة المحو، كتبتُ. الكتابة للذاكرة، ذاكرة الماضي، الحاضر والمستقبل. الذاكرة الجماعيّة لنساء لاجئات، مهاجرات. حملنَ أشواقهنّ، وجراحاتهنّ، وأحلامهنّ التي تمظهرتْ في البحث عن حالة آمان، هل هناك أعظم من ذاكرة الآمان مقابل ذاكرة الحروب، والنزوح، والغرق في الأبيض المتوسّط، أو في الصحراء الكبرى المحروسة بحرس أوربي منعاً للهجرة تحت أيّ ظرف كان؟
من يكتب هذه الذاكرة إنْ لم تكن النساء ذات أنفسهنّ؟ مَن مشى مثلنا على الجمر، على الصفيح الساخن؟
مندي المنسيّة في الذاكرة، أشرعت فضاءاتها عبر مشاريع كتابة الذاكرة، بدءاً من ذاكرة الحروب، والنزوح، واللجوء، والعودة إلى البيوت نبض ذاكرة النساء، ذاكرة الماء، ذاكرة جدّاتنا، جدّاتنا الّلآتي لم يكتبْنَ ذاكرتهنّ، وهاهنّ الحفيدات الّلآتي صرنَ أمّهاتٍ، وبعضهنّ جدّات يكتبنَ عن الجدّات، (جدّاتنا ثراء الذاكرة)… ماذا بعد؟
ذاكرة نسويّة، جماعيّة تتحدّى سويّاً المحوَ، تمسكُ يداً بيد، مستلهماتٍ مشروع مندي المنسيّة التي صارت الآن ذاكرة للمستقبل.
تشكّل الذاكرة فضاءً نابضاً في السرد النسوي، لا سيما في سياق المنفى، حيث تتحوّل من ذاكرة للمعاناة إلى تجربة إنسانيّة خلاّقة. إنّ عذابات الذاكرة لا تقتصر على استدعاء الماضي، بل تمتد لتشمل مايختلج في النفس، تلك الاختلاجات التي نواجهها، نحن النساء، المهاجرات، والمنفيّات، وتُجسّد بذلك رحلة معقّدة بين الحضور، والغياب، بين النسيان، والتذكّر.
في هذا الإطار، يُطرَحُ مفهوم الطبوغرافيا السرديّة كأداة منهجيّة لرصد، وتفسير توزيع الأشكال السرديّة النسويّة التي تنبع من تجارب المنفى. تعكس هذه الطبوغرافيا، التي تعني حرفيّاً رسم الخرائط، الخريطة المعنويّة التي تنسجها النساء عبر سردياتهنّ، ممّا يسمح بفهم أعمق لتقاطعات الذاكرة، والهوية، والجندر.
كتابة الذاكرة تعكس وجوه متعدّدة لاستكشاف هذه الطبوغرافيا، و التحديّات التي تواجهها النساء في صياغة ذاكرتهنّ، وتحويلها إلى سرديّات تُمكّنهنّ من كتابة ذاكرة المستقبل، ذاكرة جماعيّة نكتبها معاً، ليس للتاريخ، بل إاعادة كتابة التاريخ. قد لا نملك ذات السلطات السياسيّة هنا، وهنا والتي تتحكّم في تدوين الذاكرة، وكيف؟ أين نحن من كلّ ذلك؟
في 26- 27 ابريل من العام 2003 شاركتُ في مشروع ورشة عمل في (متحف التهجير، والطرد، والمصالحة) ببرلين بعنوان:
Relating Silences from Colonial Wounds
(مناجاة الصمت مع جراحات الاستعمار).
ذاكرة الجراحات التي دوّنتْ ليكون للمستقبل ذاكرة، ولكن هل يمكن ذلك، والمهاجرين/ت الأوائل الذين بنوا المانيا لم يكن لهم وجود؟ ليس هناك ذاكرة للسود، وتاريخهم، فكيف يمكن مناجاة الصمت مع جراحات الاستعمار بعيداً عن ذاكرة المنفيّين، والمنفيّات حتى من الذاكرة المدوّنة في هذا المتحف الأنيق المشدّد الحراسة؟. متحف يضجّ بذاكرة الماضي، ويرسم ذاكرة المستقبل في غياب للمنفيّين، والمنفيّات من عوالم ما وراء البحار، عدا صورة يتيمة لشاب سوري يحاول أن يلتقط (سيلفي) مع المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، وعلى وجهه ارتسمتْ ذاكرة ياسمين، زيتون، حبيبة، وشام.
ذاكرة الانتقاء، هي ذاكرة مثقوبة؛ لا تصنع عدالة، بل تعمّق الظلم، وتُكرّس القهر.
من يملك إذن مفاتيح الذاكرة، فيُبقي ما يشاء منها، ويُهمل ما يشاء؟
من يوشّح جراحاً بالصمت، ويضيء ما يريد من ذاكرة، ويعتّم على ما سواه؟
من له السلطة لينسج النسيان حول ذاكرة المنسيّات، والمنسيّين، ويجعل من الذاكرة فضاءً لمن يملك رأس المال؟ ماذا عمّن سُحقتْ أسماؤهم تحت ركام التاريخ؟ من يكتبهم، ويكتبهنّ؟
ولأجل كلّ ذلك، سعيتُ في مشاريع مندي للكتابة الابداعيّة. أن يكون لنا، نحن النساء، ذاكرةٌ جماعيّة؛
نكتب بها ماضينا، ونشهد بها حاضرنا،
ونؤسّس معاً ذاكرةً للمستقبل، ذاكرة مسنودة بالمساواة، وناهضة بالعدالة، ومشرّعة نحو تضامن إنساني، عالمي.
شارك المقال