طلال مدّاح: صوتٌ يتردّد في ذاكرة الطرب العربي

21
نجيب يماني

نجيب عصام يماني

كاتب صحفي سعودي

• لا يُذكر الغناء السعودي الأصيل، إلا واسم طلال مدّاح يطلّ في الصدارة، كعلمٍ من أعلام الموسيقى العربية الحديثة، وصوتٍ وُلد ليكون جسرًا بين البساطة الفطرية وعمق الإبداع. لم يكن مجرّد مطربٍ يؤدي ألحانًا، بل كان مدرسةً كاملة في الحسّ الفني والذوق الرفيع، صاغ ملامح الأغنية السعودية الحديثة، وجعلها تتبوأ مكانًا مشرّفًا بين مدارس الغناء العربي الكبرى.

ملامح الشخصية الفنية

تميز طلال مدّاح بوجهٍ طفوليّ الملامح، وعينين تعكسان صدقًا دفينًا، وصوتٍ يحمل في طبقاته دفء الصحراء ورقّة البحر معًا. لم يكن صوته مجرد وسيلة للتطريب، بل كان أداة لنقل المشاعر الإنسانية العميقة؛ الحزن، الشوق، الفرح، والحنين. وقد أطلق عليه النقاد ألقابًا مثل «قيثارة الشرق» و»صوت الأرض»، وهي ألقاب لم تأتِ من فراغ، بل من إدراكٍ جمعيّ أنّ هذا الرجل شكّل وجدانًا غنائيًا خاصًا لا يتكرر.

أروع أغنياته.. بين الشعر واللحن

لعلّ أغنيته الشهيرة «مقادير»، التي كتبها الشاعر الغنائي الكبير سمير مبروك، من أبرز الأعمال التي رسخت في ذاكرة المستمع العربي. فهي تحمل في كلماتها حكمة الأقدار، وفي لحنها البسيط العميق جمالًا يتجاوز حدود الزمان. أما «زمان الصمت» من كلمات بدر بن عبد المحسن، فهي ملحمة عاطفية، تُترجم صراع الحبّ والصمت، وتُظهر عبقرية طلال في تلوين صوته بين الشجن والتحدي.

ومن روائع أعماله أيضًا «وَردك يا زارع الورد»، التي تفيض بالصور الشعرية الرقيقة، وتُبرز قدرته على الغناء العاطفي الرشيق، الذي يجمع بين خفة الظلّ والصدق الشعوري. ولا يمكن إغفال «ليلة تمرّين» و*»يا خلي»* وغيرها من الأعمال التي باتت جزءًا من تراث الغناء الخليجي والعربي على السواء.

شهادات النقاد والفنانين

لم يكن طلال مدّاح مجرد محبوبٍ لدى الجمهور، بل حظي بتقدير النقاد وكبار الفنانين. فقد وصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنّه «صوت يملك كل مقومات الخلود»، بينما رأى فيه محمد عبده «أستاذًا وملهمًا» لكل الأجيال اللاحقة. أما النقاد فقد أجمعوا على أنّه نجح في خلق هوية سعودية أصيلة للأغنية، دون أن يعزلها عن التيارات العربية، بل مزجها ببراعة جعلت المستمع من المحيط إلى الخليج يتذوقها بلا حواجز.

إرثه الفني والإنساني

لم يكن طلال مدّاح فنانًا نخبويًا يعيش في برجٍ عالٍ، بل كان قريبًا من جمهوره، يعكس آمالهم وأحلامهم بلغة موسيقية راقية. 

ترك وراءه إرثًا فنيًا يزيد عن ألف أغنية، ما بين ألحان وأداء، تظلّ شاهدة على عبقرية فنانٍ عاش للفنّ ومات وهو يغني، وكأنّ القدر أراد أن يظلّ صوته مرتبطًا بالحياة حتى لحظاته الأخيرة.

 الحديث عن طلال مدّاح ليس حديثًا عن فنانٍ رحل، بل عن ذاكرةٍ حيةٍ لا تزال تتردّد في الأذن العربية. هو صدى حنينٍ لا يخفت، وجرسٌ موسيقيّ يظلّ يذكّرنا بأنّ الفنّ الحقّ لا يُقاس بعدد الأغاني ولا بعدد الحفلات، بل بما يتركه من أثرٍ خالد في روح المستمع. طلال مدّاح لم يكن مجرد مغنٍ، بل كان رواية مكتملة عن الحُبّ والإنسانية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *