صنع الله إبراهيم.. العابر بين السجن والكتابة والحرية

182
صنع الله إبراهيم
Picture of كمال باشري - القاهرة

كمال باشري - القاهرة

• في مساءٍ مثقل بالغياب و في  صحبة أخي و صديقي الاديب و الشاعر الكبير محمد نجيب محمد علي ذهبنا لمسجد عمر مكرم لأداء واجب العزاء في غياب صوت  ظلّ طويلًا يقاوم الصمت بالكتابة. رحل صنع الله إبراهيم، الرجل الذي عاش ثمانية عقود ونصفًا، كأنها رحلة كاملة بين الحلم والهزيمة، السجن والحرية، الصمت والكلمة. برحيله، لا نفقد كاتبًا فحسب، بل نخسر ذاكرةً كانت تقاوم النسيان، ومرآةً عكست وجوهنا المجهدة بصدقٍ موجع.

وُلد صنع الله في بيت يفيض بالحكايات، وفي مدينة كانت تصحو على هدير النيل وأصداء الثورة. كان الأب حكّاءً، والكتب تحيط بالطفل الصغير مثل أسرّة الأمان. لكن سرعان ما وجد نفسه في مواجهة العاصفة؛ ففي 1959، ساقته خطواته إلى السجن، حيث قضى خمس سنوات ستظلّ مطبوعة على جلده مثل وشم لا يمحى. هناك، داخل الجدران العالية، وُلد الكاتب الذي سيحوّل القيد إلى نصّ، والعزلة إلى شهادة، والجرح إلى سرد يخصّ الجميع.

منذ روايته الأولى «تلك الرائحة»، بدا واضحًا أن صوته لن يشبه أحدًا. لم يكتب الرواية كحكاية للتسلية، بل كوثيقة للذاكرة، وكصرخة ضد التزييف. أسلوبه كان أشبه بكاميرا باردة، توثّق ما يجري بلا رتوش، لكن بين السطور كان الغضب يتوهّج، والإنسان يئنّ. كتب عن السد العالي، عن بيروت الملتهبة، عن البيروقراطية الكافرة بالحياة، عن امرأة اسمها ذات تختزن في تفاصيلها حكاية وطن، وعن شرف يذوب في أقبية السجون حيث تتكشّف طبقات القهر والفساد.

لم يكن صنع الله يساوم. رفض الجوائز حين شعر أن يدها ملوّثة، وفضّل العزلة على التصفيق المزيّف. ظلّ وفيًا لصوته الداخلي، وللإيمان بأن الأدب فعل مقاومة، وأن الكلمة أمانة لا يجوز خيانتها.

لكن خلف حدّة موقفه، كان هناك كاتب عاشق للإنسان، مشغول بالعدالة، مترجم لآلام الجماعة. رواياته ليست فقط نصوصًا أدبية، بل خرائط للذاكرة، وشهادات على زمن عربي عاصف، كُتب بدمه وعرقه وقلقه.

رحل صنع الله إبراهيم، تاركًا لنا ما يضيء العتمة:

 – لغة مقتصدة لكنها دامية.

 – نصوص تنبض بوجع الحقيقة.

 – موقفًا يذكّرنا أن الأدب ليس حيادًا، بل انحياز دائم للحرية.

الآن، حين نعيد قراءة أعماله، ندرك أنه لم يكن مجرد كاتب؛ كان شاهدًا، ومحاكمًا، وعاشقًا صلبًا للحقيقة. لقد عبر بين السجن والكتابة والحرية، وترك وراءه إرثًا سيظلّ حيًّا ما بقيت الرواية العربية تبحث عن صدقها.

ومع أن مصر كانت مركز عالمه الروائي، فإن حضور السودان بدا كخيط خفي يمر عبر بعض أعماله وإشاراته. ففي رواية «نجمة أغسطس»، التي تناولت مشروع السد العالي، يتبدّى السودان بوضوح؛ إذ لم يكن السد مشروعًا مصريًا فقط بل جرحًا مشتركًا امتد أثره إلى قرى النوبة على الضفتين المصرية والسودانية بما حمله من تهجير وطمس للذاكرة. 

السودان في وعي صنع الله لم يكن مجرد جغرافيا بعيدة، بل جزءًا من النهر الذي يسري في كتاباته، ومرآة للقدر المشترك الذي يربط القاهرة بالخرطوم.

كما ظلّ يتابع التحولات السودانية السياسية منذ ثورة أكتوبر 1964، وانقلاب ،1969 وما تلاه من تقلّبات، بوصفها جزءًا من مأساة المنطقة في مواجهة الاستبداد والتبعية. وكان قارئًا متذوقًا للأدب السوداني، معجبًا بالطيب صالح الذي رأى فيه صوتًا شبيهًا، يحفر في الذاكرة  ويواجه التاريخ والسلطة معًا. لقد بقي السودان بالنسبة له نصًا غير مكتمل، عاش في خلفية وعيه وكتاباته كقصيدة ناقصة. 

رحم الله صنع الله إبراهيم و غفر له فإن عزاءه ليس عزاء للثقافة المصرية بل الثقافة العربية قاطبة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *