
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• دخلت العملية الساعة العاشرة والنصف صباحاً تقربياً، وما بين الساعة العاشرة والنصف، وحتى الساعة السادسة مساءًَ لا أدري ماذا حدث في هذه الدنيا، فقد كنت تحت تأثير تخدير كامل.
آخر شيء تذكرته بعد أن فقت من تأثير البنج والتخدير، أنني كنت قد ذهبت إلى غرفة العملية ماشياً على رجلي وبصحبة ممرضة، ودخلت غرفة العملية.
الناس هناك كانوا طيبين ولطيفين كالعادة، يبتسمون لك، ويبثون في نفسك الطمأنينة، وكأنهم يقولون لك لا تخف، كل شيء سيسير على ما يرام، كن واثقاً ومطمئناً.
ثم طلب مني خلع حذائي والشراب، والقاش والقميص، والسماعة، وما تحتويه جيوبي من بقايا أموال وأقلام، علماً بأنني كنت في كامل أناقتي، كما هو الحال دائماً عندما أكون في مثل هذه الظروف.
فعلت ما طلبوه مني بكل حرفية، ثم سلمت أغراضي وأشيائي لأخي عبد الله قنديل، الذي حملها وخرج متمنياً لي الشفاء، وكان أخي عكرمة في الخارج ينتظره ( وأخواي عبد الله وعكرمة ظلا يرافقانني في كل لحظة وكل مكان، ويخففان عني الآلام)، والأهل في الخارج نساء ورجالاً ينتظرون ويتمنون لي الشفاء بالدعوات.
ثم طلب مني الممرض بعد ذلك الصعود إلى سرير العملية، وألبسوني لبسة العملية المميزة ذات اللون التركوازي. والأجهزة تحيطني من كل مكان، كل جهاز ينتظر دوره ليدخل جسمي ويفعل المطلوب منه، فهي مجموعة من الأجهزة والمعدات، كلّ له مهامه المحددة.
وبمهارة فائقة وسرعة قام الممرض بتركيب فراشة مقاس ١٦ في يدي اليسرى، ثم أوصلها بدرب مباشرة، وطلبت مني اختصاصية التخدير تقريباً أن أزحف إلى الخلف قليلاً في وضع أكون فيه أكثر راحة، فمازحتهم وقلت لهم (إنكم أخذتم القاش، لذلك حركتي ستكون بطيئة إلا أرجع حبة حبة)، فضحكوا وأظنهم قالوا في أنفسهم (الزول دا هسع فصاحته دي بتنتهي). وقد كان، فبعدها لم أفهم أو أرَ أو أحس بشيء، إلا ووجدت نفسي في غرفة خاصة لطيفة بعد ست ساعات من ذلك الزمن، غرفة واسعة في الجناح الخاص، مجهزة تجهيزاً ممتازاً، بها ستائر، وحمام داخلي خاص، وسريران وثلاجتان، و ٨ دواليب، ومكيف، وتلفزيون. (المهم كانت الغرفة رائعة حقيقةً).
والأروع من ذلك، وجدت الغرفة محاطة بكل حب، جماعات من الأهل شيباً وشباباً وشابات حضروا العملية، وكميات من الحلويات بأنواعها والبلح ومشروبات دافئة وباردة. داخل الغرفة.
يسبق كل ذلك دعوات (حمداً لله على السلامة).
زارني كل الأهل، ولأول مرة أعرف الحكمة من حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- الذي وصى فيه بزيارة المريض، فمعاودة المريض تخفف عنه الكثير الكثير.. جاؤوا من أحياء مختلفة وفي أزمان مختلفة، منهم من جاء قبل العملية الساعة ٦ صباحاً، ومنهم من جاء معي الحجل بالرجل بعد صلاة الصبح مباشرة، ومنهم من جاء بعد العملية، جاؤوا زواراً كراماً لهم الحب والتجلة والتقدير والاحترام.
وصحيح جداً المثل القائل (العز أهل)، وأنا أزيد من الشعر بيتاً (العز أهل وأصحاب وزملاء)، فزميلي د. محيي الدين مصطفى (نائب الاختصاصي) الذي فوجئ بوجودي في المستشفى في ذلك اليوم، وتصافحنا عميقاً، ثم (دردشنا معاً وأعدنا على عجالة ذكريات داخلية حسيب والرازي بجامعة الخرطوم، وأيام كانت لها إيقاع)، لم يقصر أبداً أبداً، فقد ظل متابعاً لي في كل كبيرة وصغيرة، حتى ظنه بعض الناس أنه من آل بيتنا، ومعه زميله عبد الرحمن مصطفى.
شباب في منتهى اللطف والفهم، ويحسسونك بأن مستقبل الطب في السودان بخير.
أما عن المستشفى فأول ما يلفت انتباهك هو النظافة، فالمستشفى (نظيف يلتمع)، والقائمون على أمر النظافة مخلصون حد الإخلاص.
كل العاملين في المستشفى تعاملهم إنساني وحضاري بصورة راقية، فعندما تسأل أحدهم في المستشفى عن مكان ما مثلاً، لا يكتفي بوصفه لك فقط، بل يأخذك بيده حتى يوصلك المكان ويرشدك إلى ما ينبغي فعله، بكل أريحية وحب.
أما الدكتور فؤاد عبد الرحمن محمود، اختصاصي الأنف والأذن والحنجرة في بورتسودان قائد كل هذا الركب، فأجلنا الحديث عنه، لأن الميدالية الذهبية دائماً يتم تقلدها آخراً، فهو نوع آخر من البشر، إنسان من الزمن الجميل (زول ذي النسمة) كما يقولون، يتعامل برقي ولطف وبساطة، قريب جداً من مرضاه يهتم بهم، يستمع إليهم بسلاسة، ويشرح لهم ببساطة، وبكل روح طيبة، يتلقاك بابتسامة مريحة تطمئنك، وتجعلك كأنك تعرفه منذ سنين، يكسر الحواجز، فتحكي معه بأريحية وكأنكما صاحبان وليست علاقة مريض بطبيب، أما علمه وشهاداته فتلك لا تحتاج لحديث، فهي تتحدث عن نفسها.
شكراً د. فؤاد، فقد جمعت بين الطب والإنسانية والإدارة والتواضع. (وزينة العلم التواضع)،
وهذا ما نريده في سودان ما بعد الحرب.
شكراً د. فؤاد فمن بعد الله سبحانه وتعالى أعدت إليَّ صوتي.
شكراً د. حمدان مصطفى، شكراً د. الرشيد علي عووضة، شكراً د. عثمان علي محمد، فقد بدأت أول خطواتي التشخيصية معكم ولم تقصروا أبداً.
الشكر كل الشكر لأهلي بصورة عامة وأسرتي الكبيرة والصغيرة، وأسرة زوجتي (أسرتي الثانية) في العباسية تقلي وبورتسودان، والشكر أجزله لخالتي وصيفة سيد مهران، وهي تناديني يومياً صباحاً ومساء، حاملة معها ما تشتهيه الأنفس من طعام وشراب، وتصر على الأكل والشراب، وتقول لي (عشان تبقى كويس). فلم تحوجني إلى شيء مادي أو معنوي لتسهيل العلاج.
الشكر لكل الأهل في كل السودان وخارجه، فلم يكف هاتفي عن الرنين طيلة الأيام الفائتة، ولم يقصروا، فقد كانوا يداً واحدة من أجل صحتي ولا تكفيهم الكلمات حقهم، ولكن نقول لهم جزاكم الله خيراً، وربنا يقدرنا على رد جميلكم. ولا أريد أن أذكر أسماء فقد لا تسعفني الذاكرة لذكرهم جميعاً، وأكون قد أجحفت في حقهم، شكري للجميع بدون فرز.
الشكر موصول لأسرة صحيفة (فويس) ومستشار تحريرها الذي كان يتابعني ويتفقد أحوالي، وقد نشروا خبر العملية في جريدتهم العامرة للدعاء لي.
شكراً للجميع.. والسلام.
شارك المقال