• السَكْرةُ في قاموس اللغة هي حالة يُفقد فيها الوعي، ويغيب الإدراك. ويسمى صاحبها سكراناً. وأشهر ما يأتي بها الخمر الذي يستعمله مُعاقِره لإذهاب عقله اختياراً، فيختار بوعيهِ أن يُلغي وعيهُ ويسبق الخمر سكرته.
وقد حُرِّم أشد التحريم لما يفعله بالعقول، وهو على عكس مسكراتٍ غيره تأتي كراهةً فتشد منك الوعي بلا وعي، ومنها ما هو شاقٌ كالموت الذي تسبقه سكرته (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).
وقد فُسرت سكرة الموت بأنها شدته وغمرته الذاهبة بالعقل. ومنها ما هو هينٌ لينٌ كالأنس الذي يعتلج وسكرته فلا يسبقها ولا هي تسبقه، بل يمتزجان في نفس المهموم حين يلاقي خليله الذي يأنس به، أو رفاقه الذين يحن إليهم، فيتوقف الزمان في تلك اللحظة وكأنها تُعطِّل ما يليها من لحظات، فيتبادلون الأحاديث، وتمر الساعات كثوانٍ معدودة، ينسى فيها المكروب كربه، ويكون أشدهم بؤساً كمن لم يرَ بؤساً قط، فهي لحظاتٌ تغيب فيها الفكرة وتحضر السكرة. وحضور السكرةِ غياب… وأي غياب؛ هو غيابٌ للهم والحَزَن وبوادر الشجن.
ومن عجائب السُكر أنه يزداد فيه الجواد جوداً، وقد وُجِدَ معتقدٌ راسخٌ عند القدماء مفاده أن من أذهبت الخمر عقله يكون من أكثر الناس إنفاقاً لماله، ولكن لغياب عقله قد يفرط في عرضه بعد تفضله بكل ما يملك من مالٍ ومتاع، لذلك مدح عنترة نفسه في المعلقة بأنه لا يدفعه السكر للتفريط في عرضه. كما أن الوعي لا يحوله عن الجود بجُل ماله وذلك بقوله:
وإذا شربت فإنني مستهلك مالي
وعــرضي وافـــــــرٌ لم يُكلَــمِ
وإذا صحوتُ فما أقصر من ندى
وكما علمتِ شمائلي وتكرمي
وأحسب أن من أصابته سكرة الموت سيكون أشد كرماً لو وعى لذلك، فإنه حينها يحتقر الدنيا احتقار مجربٍ، وهي التي مدح بها أبو الطيب المتنبي أبا المسك كافور واصفاً عطاءه حيث قال:
فقد تهب الجيش الذي جاء غازياً
لســائلك الفرد الذي جاء عافيا
وتحتقر الدنيا إحتقـــــار مجــرب ٍ
يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
أما سكرة الأنس فإن الإنسان يجود فيها بوقته وتركيزه، وينسى من أمره ما ينسى حين ينغمس في ثناياها، مع حفاظه على عقله الذي كرمه الله به، فكأنها حالة انتقائية تُزِيح أفكار الشقاء الموحشة، وتُبقي على نقيضاتها المؤنسات.
وعلى الرغم من كل ذلك، قد تتعاظم النائبات أحياناً لتشغل حيز التفكير المتاح في العقل، حتى تصل حداً يجعلها تمنع المكلوم من أن يأنس برفاقه، فلا ينالُ تلك السكرة ويكون شريداً فكره، ووجيعاً قلبه من صراعٍ يدور في خاطره بين سكرة الأنس ويقظة الواقع المرير المتهالك.
شارك المقال