م. حمدي عباس إبراهيم
مستشار اقتصاد زراعي
• السودان هذا القطر الشاسع المترامي الأطراف، الغني بموارده الطبيعية المتنوعة، ظل ومنذ استقلاله قبل أكثر من ٦٩ عاماً دون تحقيق ما يناسب هذه المميزات اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً. ظل يعاني في معظم حقبه من حالات تشرذم وعدم استقرار سياسي وأمني. ولعل حالة عدم استقرار نظام الحكم وتأرجحه المستمر بين أنظمة ديمقراطية لفترات قصيرة وانقلابات عسكرية متعددة المشارب والأهداف والغايات ما يفسر ذلك.
كما أن فشل كل الأنظمة في استمرارية نظام إداري فعال لهذا القطر الكبيرة مساحته، مع تنوع وتباين في كثير من مواصفاته الجغرافية والإثنية والعقائدية؛ ما يضيف لأسباب هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
إدارياً بدأ حكم السودان مركزياً، ثم تحول لحكم إقليمي، وأخيراً لحكم فدرالي في شكل ولايات ومحليات. غير أنه في كل الأحوال لم تصاحب ذلك عدالة فى جوانب الخدمات الاقتصادية والخدمية. بل تركزت معظمها في العاصمة الخرطوم وقليل من المدن الكبيرة. أدى كل ذلك لحالات من الغبن والإحساس بالتهميش في
نفوس مواطني الريف السوداني وهم أغلبية. وقد استغلت بعض النخب السياسية ولدوافع مختلفة هذا الإحساس بالدونية والتهميش لأغراض سياسية ومصالح شخصية. تراكم كل هذا مع حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، إضافة لطموحات البعض السياسية، أصبحت من الأسباب الرئيسية لنشوب هذه الحرب العبثية واستمرارها حتى الآن لما يقارب أربع سنوات. أحدثت هذه الحرب وما زالت دماراً مزلزلاً لاقتصاد السودان الهش أصلاً. والتدمير أشد وأسوأ في القطاعات الخدمية والزراعية والصناعية في العاصمة وولايات الوسط وغرب السودان. أضاف هذا الدمار الممنهج لحالة الإحباط، وكان وقوده ذلك الاستغلال لإحساس التهميش والدونية في معظم المناطق الريفية في السودان.
لكل ما جاء عاليه، ولمحو آثار أخطاء الماضي في كافة المجالات التنموية، ومسح روح الإحباط المستشرية والمستغلة سياسياً من بعض الفئات، يجب أن يكون التوجه والأداة في برامج ورؤى إعادة تعمير سودان اليوم التالي للحرب مختلفاً تماماً عما سبق من حيث الفكر والهدف.
ويؤخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن السودان بلد زراعي بحكم موارده وسبل كسب عيش أهله وهم غالبية أهل البلد في الأرياف تعتمد على الزراعة. لكل ذلك فإن الأمثل هو التوجه واعتماد برامج تنمية ريفية شاملة ومتكاملة. تشمل بجانب الإنتاج الزراعي النباتي والحيواني، كذلك التصنيع الزراعي المصغر المناسب لكل رقعة جغرافية ونوعية الإنتاج. وأكيد لا بدّ أن يشتمل هذا البرناج على نهضة تنموية في مجال البنى التحتية وكافة الخدمات الاجتماعية.
كما أنه يقترح أن تكون الآلية الرئيسية لتنفيذ رؤى وبرامج التنمية الريفية الشاملة عبر التعاون الزراعي. ويستصحب في هذه الرؤية الممارسات التاريخية في السودان وكذلك في الدول النامية والمتقدمة.
إن مفهوم التنمية الريفية وتطبيقه السليم المتكامل وفي المناخ المناسب، كان ولا يزال المخرج والطريق للتطور في كثير من دول العالم النامية. ولذا من المؤمل جداً أن يكون المخرج للسودان من وهدته هذه. وأهمية التنمية الريفية في الدول النامية تنبع من أنها مفتاح الأمن الغذائي، ودعم قوي للاستقرار الاجتماعي إضافة لتعزيز النمو الاقتصادي ومحاربة الفقر. كما أن تلك التنمية الريفية المبتغاة، تتميز بنهج تكاملي يشتمل على الزراعة والصناعة من جهة، وتوازن الريف والحضر من جهة ثانية، وكذلك الخدمات الاجتماعية.
أما الآثار الاقتصادية المرجوة من التنمية الريفية المتكاملة، فتتمثل في تحسين الإنتاجية وزيادة دخل الفرد، وخلق فرص عمل إضافية، وتنويع مصادر الدخل.
لقد تم تطبيق منهاج التنمية الريفية في العديد من دول العالم فعبرت ونمت وتقدمت.
من الأمثلة العالمية الناجحة: الصين حيث حدث تحول إيجابي ملموس في الريف، وتطوير للصناعات الريفية إضافة لاستثمارات في البنى التحتية. أما في البرازيل فمن أهم إنجازات ذلك المنهح برنامج «صفر جوع»، ودعم الزراعة الأسرية وتحسين سبل كسب العيش. وفي الهند ذلك القطر شبه القارة، المشابه للسودان في كثير من خصائصه، فكانت أميز النجاحات في ما تمت تسميته الثورة الخضراء (الحبوب) والثورة البيضاء (الألبان)، وكذلك برامج التشغيل الريفي والبنوك التعاونية.
أما الآلية المقترحة لتنفيذ هذه التنمية الريفية فعبر التعاون. أيضاً نجد في العالم المتقدم والنامي دولاً اتبعت هذه الآلية في تنفيذ برامج التنمية الريفية المتكاملة، فحققت النجاح والأهداف المرجوة. هذه الدول كمثال تشمل الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والهند وهولندا. وفي كل هذه الدول وغيرها تعتبر التعاونيات ركيزة أساسية في اقتصاديات تلك الدول مع اختلاف في الهياكل حسب ظروف ورؤى كل دولة. ولكن في كل هذه الدول وبالمجمل الهدف الأساسي وهو تعزيز القوة الاقتصادية للمزارع الفرد من خلال العمل الجماعي. حدث ذلك عبر زيادة الكفاءة وتحسين القدرة التسويقية، وبالتالي تعزيز الدخل الزراعي.
أما في السودان فللتعاون تاريخ ضارب في القدم، ويستند أساساً على مفهوم النفير الاجتماعي. من ناحية تنظيمية وهيكلية، فقد بدأ نظام التعاون في السودان قبل استقلاله في ١٩٥٦م خدمة لأغراض اقتصادية محددة للاستعمار الإنجليزي.
أما أول قانون استنَّ للتعاون السوداني فقد كان في عام ١٩٦١م. شمل ذلك القانون مجالات تعاونيات تسويق (مثل قطن وفول سوداني وصمغ عربي) وتعاونيات استهلاكية، وتعاونيات ائتمانية. شهد العمل التعاوني قدراً من النجاح في بداياته وفي بعض الحقب اللاحقة. وأمثلة لذلك وليس حصراً: المشاريع الزراعية في أرياف ولاية الخرطوم والشمالية والجزيرة
(ألبان مشروع الجزيرة ومطاحن الاتحاد في قوز كبرو) وجمعيات منتجي الصمغ العربي، وجمعيات مزارعي البساتين في مشروع الرهد بولاية القضارف. تفاوتت نسب وفترات وظروف نجاح أو فشل كل هذه الجمعيات.
عموماً شهدت فترة السبعينات بداية التدهور، ومن أسبابه ذلك التأميم الشهير في عهد نميري وما أدى إليه من إلغاء فعلي لاستقلالية العمل التعاوني على وجه الخصوص، وهيمنة الدولة تنظيمياً وإدارياً عليه. تبع ذلك استشراء الفساد بسبب هذه الهيمنة. وتوالى أمر الانهيار ليبلغ مداه في مطلع هذا القرن عند تطبيق أهوج لنظرية السوق الحر، ليصبح انهياراً شبه كامل للقطاع التعاوني. ومن أهم نتائجه توقف الكثير من المنشآت التعاونية التي أشرنا إليها كأمثلة عاليه.
ولأهمية هذه النقاط وأثرها في مقترح أن يكون التعاون هو آلية إحداث التنمية الريفية في السودان نعيد تلخيص تلك الأسباب والمعوقات للعمل التعاوني السوداني:
* تسييس العمل التعاوني والهيمنة الحكومية.
* الفساد المالي والإداري.
* التطبيق السيئ والأهوج
لنظرية السوق الحر، وتجييرها قصداً لمصالح خاصة جداً.
* ضعف تمويل القطاع التعاوني.
* الأوضاع الأمنية المتردية والنزاعات المسلحة.
آخذين في الاعتبار كل هذه المعطيات عاليه. وللخروج بالسودان من هذه الوهدة وهذا المستنقع الآسن، لا بدّ من تضافر كافة الجهود الرسمية والشعبية لإعادة تعمير سودان اليوم التالي بعد الحرب، وإعادته للمسار الصحيح الملائم لإمكاناته، والذي يحقق الأهداف السامية لتنمية ريفية شاملة متكاملة بكل مكوناتها الزراعية والصناعية والخدمية والاجتماعية والبيئية. لن يتم ذلك إلا إذا التزم الكل التزاماً صادقاً أميناً شفافاً مستداماً بما يلي:-
* أن تكون كل الرؤى والبرامج لفترة إعادة إعمار وتنمية سودان اليوم التالي، ترتكز على مناهج التنمية الريفية الشاملة والمتكاملة. وأن تكون لها أسبقية وأولوية على ما عداها. وأن تكون الآلية الأساسية لذلك العمل التعاوني المتكامل أيضاً بعد إزالة كافة المعوقات التي أقعدت به سابقاً في السودان.
* أن تلتزم أجهزة الدولة القومية والولائية بمراجعة عاجلة لكافة القوانين الحالية، وباستحداث قوانين جديدة بما يخدم رؤية التنمية الريفية وآلياتها التعاونية.
*أن تصدر وتلتزم أجهزة الدولة المعنية بسياسات اقتصادية ومالية، تدعم أغراض وأهداف التنمية الريفية وآلياتها.
* التزام أجهزة الدولة المعنية مركزياً وإقليمياً بإنشاء البنيات التحتية الأساسية، خاصة المرتبطة بالتنمية الريفية والإنتاج حسب حاجة كل منطقة. يشمل ذلك الطرق والكهرباء والاتصالات والمياه وغير ذلك.
* أن تبتعد كافة الأجهزة الحكومية عن العمل الإنتاجي المباشر، وكذلك تسييس العمل التعاوني. بحيث يظل التعاون شأناً جماهيرياً ديمقراطياً خالصاً.
* أن تراجع الدولة بأعجل ما تيسر حال أداء وقوانين وهياكل البنوك المتخصصة ذات الصلة المباشرة بالتنمية الريفية وآلياتها التنفيذية. يشمل ذلك: البنك الزراعي، بنك المزارع، البنك الصناعي والبنك التعاوني وبنك الثروة الحيوانية. ويجب أن تعمل هذه البنوك على التمدد الجغرافي الفاعل في المناطق الريفية التي تخدمها، بحيث يتمكن المنتجون وغيرهم من التعامل السهل المباشر مع فروعهم الثابتة والمتحركة.
* العمل الجاد والعاجل لإعادة الحياة وإزالة كافة المعوقات من المؤسسات والشركات ذات الصلة المباشرة بالإنتاج والتنمية الريفية. يشمل ذلك:
شركة الحبوب الزيتية، شركة السودان للأقطان، شركة الصمغ العربي.
* على أجهزة التعاون وجهات التمويل أن تغطي وتشمل برامجها الأساسية التصنيع الزراعي الصغير في القرى والمدن الريفية، بناء على نوعية إنتاج كل منطقة ريفية. والهدف الأساسي تنويع مصادر الدخل والقيمة المضافة للخام. أمثلة لذلك تصنيع الزيوت والأمباز من الفول السوداني وزهرة الشمس؛ تجفيف الخضر والفاكهة منتجات الألبان؛ الفحم من سيقان القطن.
* على أصحاب المصلحة الحقيقية في التنمية الريفية، التمسك القوي الصارم بديمقراطية الحركة التعاونية من القاعدة للقمة عبر كافة هياكلها. وعليهم مناهضة ومحاربة أي تسييس أو هيمنة حكومية أو غيرها على التعاون.
عليهم الحرص الأكيد على اختيار القيادات الشعبية ديمقراطياً، بناء على صفات الصدق والأمانة والكفاءة والمقدرات القيادية الأخرى.
بتنفيذ هذا، وبتنسيق محكم بين الكل يمكن تحقيق تنمية ريفية مستدامة، وتوازن بين الريف والحضر في ظل نمو اقتصادي شامل لسودان اليوم التالي بإذن الله.
شارك المقال
