
العجب عبدالكريم العجب
كاتب صحفي
• في براحات المدينة تكثر بائعات الطعام، وأكثرهن بائعات الطعام المحلي والذي نجمل كل صنوفه بمسمى البلدي.. من باب التغيير أخصص يومين في الأسبوع لتناول الأكل البلدي دون تحديد لبائعة بعينها، وصادف أن التقيت بصديق طالت فترة غيابنا عن بعض، وذلك بسبب ظروف الحرب اللعينة. وبعد السلام والمطايبة التي جبل عليها سوادنا الأعظم في السودان، بادرت بدعوتي له لتناول أحلى أكل بلدي فيك يا مدني، فتهللت أساريره وبدأ في استعراض خبراته في التذوق ومعرفة أمهر طاهيات البلدى. وابتدرني بسؤال إيحائي ما تقول لي عازمني عند سعدية يااااخ؟ دي أفضل منها في أم دقوقة بالكسره الرهيفة في البلد دي مافي (وأم دقوقة) لغير أولي الدراية طبيخ سوداني محلي لا تعلو عليه المحدثات من الأطعمة.. طبعاً لم أظهر له عدم معرفتي بسعديته تلك، بل جاريته في مدح أكلها، وحشرت بين مدحي لها سؤال يعفيني حرج جهلي بها حيث باغته: سعدية دي محلها بالقرب من سوق الصاغة فأجابني وقد أدركت أن مباغتتي آتت أوكلها أجابني لا ياااااخ دي في زقاق الخالات ورا الجزارات، أجبته مدعياً الاستدراك اههها عرفتها. لم تكن المسافة بين موقعنا الذي التقينا فيه ومحل سعدية بعيدة، مشيناه تسبقنا حلاوة اللقيا في طيها، وصلناها فكانت الساعة حينها قد تجاوزت التاسعة والنصف بقليل، لم نجد المكان مزدحماً كما توقعته بعد سماع موشحات صديقي في مدح أكلها وطعامته. تجلس سعدية على مقعد عالٍ منسوج ببلاستك أزرق وأبيض، وأمامها مجموعة من حلل ضحمة تلمع مع انعكاس الشمس عليها، معبأة بصنوف الأطعمة. والمحل دكانة صغيرة بالكاد تسع لسعدية وحللها، لكن أمامها عريشة تراصت بها حوالي الخمس طاولات والكراسي حولها، كل ذلك لمحته ونحن نقترب من سعدية التي تقدم السعد تبسماً قبل الطعام بوجه دافئ الملاحة والملامح، وتشع من عينيها نظرة تجبرك على الاحترام. سعدية امرأة تجاوزت منتصف الأربعينات، وبراءة ملامحها توقفت عند الثلاثين، استقبلتنا بأريحية السودانية وعلاقة المزابنة لصديقي، والذي بادر بتحديد الطلبات بعد أن أجلسني على إحدى الطاولات وأخذ في تجاذب حديث خافت بينه وسعدية، والتي تحرك بصرها نحوي فعرفت أنني محور همسهم. ابتسمت لي عند تلاقي أعيننا وبادلتها الابتسام.. أتى صديقي بصينية الطعام، والتي توسطها صحن أم دقوقة، وعلى حوافها تراصت طرقات الكسرة، وبجانبها صحن سلطة خضراء، وصحن شطة قطعت عليه شرائح من بصل أبيض لزوم التحديقات.
بدأنا في تناول فطورنا وتناول بعض وناسات لحظات الأكل من مدح للأكل ونظافة المحل، ورقي تعامل سعدية، ونحن في هذا الوضع بدأ توافد موظفي الوزارات القريبة من السوق، ومعظمهم زبائن معتمدون من طريقة تحيتهم لسعدية ومبادلتها لهم وسؤالها عن بعض الأسماء: اليومين دي ناس محمد أحمد وعلاء الدين خير إن شاء الله ما لهم ما يكون نقلوهم! ولا شملهم الصالح العام؟ مع ضحكة استنكارية لفتت نظري لبعد آخر في شخصية سعدية. بعدها أخذت أركز أكثر في حواراتها الجانبية مع زبائنها، وأكثر ما استدعى استغرابي ذلك الرجل الوقور، الذي أحضر كرسيه وجلس بجانب سعدية تماماً، وتشعر من جلسته والتفاتتها بين الفينة والأخرى ناحيته بعمق الألفة وبعض الفضول لأن تسمع ماذا يدور بينهما.
أخذ الشبع مني كل مأخذ، وتحركت صوب المغسلة والتي كانت بجانب الدكانة على مقربة من كرسي ذاك الوقور، وأنا أفرك في يدي للتخلص من لزوجة الملاح، ولاستطالة البقاء بجانب الوقور علي أجد مدخلاً يشبع فضولي. في هذه الأثناء قام صديقي وبحكم أنه من رواد هذا المكان بالضحك مع شلة هنا وأخرى هناك، ممازحاً وسائلاً عن أحوال بعضهم. أكملت غسيل يدي وتسمرت بجوار مقعد الوقور، منتظراً عودة صديقي لمحاسبة سعدية بعد أن يغسل يديه.. زادت حيرتي عندما نادت علي سعدية أن نجلس في مقعدين مجاورين لها أنا وصديقي، لأنها أرسلت للشاي، كأنما كانت تتابع نظراتي المليئة بالدهشة تجاه ذلك الرجل، ولم تدع دهشتي تطول فعرفتني به سعيد شوف المصادفة العجيبة دي كيف!! سعيد لم يكن زوجها أو تربطه بها علاقة عاطفية، إنما زبون تجاوز مرحلة المزابنة إلى علاقة أمتن فأضحيا صديقين، وذلك أعلمتني به سعدية من خلال كلمتين: نحن ما أزواج ولا أهل، لكن بقينا أكتر من أخوان وعلاقتنا أسرية. تناول سعيد قفاز الحديث بلطافة وذوق، مجاملاً أنه سعيد لمعرفتي، وأن صديقي واحد من أصدقائه. في لحظة التعارف والمجاملات التي تجمد مثل هذه اللحظات.. كان لصديقي السبق في الخروج من هذا الجمود بأن سأل سعيد عن عودته من النزوح، وعن أهله في البلد، والعدد الدخل البلد، وسلوك النازحين وووو؟؟؟ مما دعاني للتدخل ياااخ انت عايز تعرف بلدهم ولا عايز تقرير صحفي. ضحك الجميع وشاركتني سعدية الرأي، مشيرة إلى صديقي بشيشك علي الزول دا جا مصدوم من أهله القابعين في البلد والنازحين ليها. أدركت أنها سمعت حكاوي من سعيد حكاها خجلاً، فأرادت أن تعفيه حرج الحكي مرة أخرى..
استنبطت ذلك من مواصلتها تعرفوا مرات الرجوع للبلد رحمة، ومرات كمان الغياب عنها برضو رحمة، أوقفها عن الاسترسال أحدهم طالباً بعض طلبات الأكل لمجموعة تحلقوا حول طاولة، حيتهم سعدية بذات الابتسامة والتي أخفتها قبل هنيهة نبرات حزينة وهي تعفي سعيد عن حكيه المحرج.. واصل سعيد ما انقطع من حديث سعدية، حقيقة البلد فيها البقربك منها وفيها البنفرك منها، وبدأ في سرد بعض الأحداث التي مرّ بها في طريقه إلى البلد من تعب السفر، والتعب من الذين أجبروه على السفر، حيث تعددت الارتكازات في مناطق سيطرة الأوباش، والتي شاهد فيها سعيد مناظر على حد قوله يشيب لها الولدان من إرهاب وترويع وقلع للممتلكات، وتفتيش للمرأة بغير مراعاة لحرمتها واحترامها، والمؤسف في بعض الأحيان أمام محارمها إمعاناً في استفزاز رجولتهم ونخوتهم، مما جعل أحدهم يروح ضحية لذاك الاستفزاز.. سكت سعيد وأجلت النظر حولي عن قصد لأخبئ دمعة سخونتها لامست جفني، ورأيت دموع سعدية تتسابق هميلة..
أخرجتنا من ذاك الصمت تنهيدة سعد بزفرة من طولها حسبتها خرجت من أصابع قدميه، أخرجها وأخرج معها ما بقي داخله من ألم، مواصلاً: تحرك بنا البص يحملنا والبؤس داخله، ناهباً الوهاد والوديان والسهول، والكل مذهول من هول ما رأى حتى بدأت في الأفق ملامح محطتنا الأخيرة، التي عندها نترجل كل إلى قريته التي ينشد الأمن والأمان فيها، وعند اقترابنا من مدخلها يوجد ارتكاز للجيش الذي أعاد منظره بعض الطمأنينة للركاب، وقبل وقوف البص سمعنا زخات من الرصاص حول البص الذي وقف حينها، وسمعنا أحد العساكر يخاطبنا بلغة فيها من الذلة ما فيها: ما قلتو الجيش جري خلاكم أها انتو جيتو جارين هنا لي؟ ساد صمت مخيف، لا يسمع إلا صوت ذاك العسكري الأجش ونواح الأطفال داخل البص، لخوفهم من صوت الذخيرة، صاح العسكري بلفظ خادش سكتوا ياااا أولادكم ديل قبل أملاكم ناار.. في هذه الأثناء تساوى عندي المشهد جيش واحد ودعم واحد، وفضلت مترقباً القادم..
أنزلنا العسكري لبداية ممارسة عمله في تفتيش البص القادم من مناطق الدعم السريع، نزلنا فلم يفرق بين رجل وامرأة في التفتيش، دون مراعاة لحرمة المرأة وخصوصيتها، إمعاناً في الذل، خاطب الشباب وانتو جارين وين يابتوع المدنية.. المهم استمر فصل المذلة هذا بعض الوقت بعد بعثرة حاجتنا وأمتعتنا وأمننا الذي ننشد. تحرك البص إلى الموقف العام، والذي عنده بدأت مشاوير لقصص وحكايات
وأنا من الناس الذين لا يحبذون الأجواء الميلودرامية.. حاولت أن أخرج منها بسؤالي لأحمد صديقي عن العلاقة بين سعيد وسعدية غير الكلام القالوه هم؟ بسؤالي هذا أخرجت صديقي من استغراق في بحور قصص سعيد، فأجابني بتنهيدة عمييقة أنبأتني بما كان يدور في دواخله، العلاقة أغرب من غريبة، تعرف الجوار الانت شاهدته بينهم دا نفسه كان قبل الحرب في مكتب واحد وبذات الحميمية والود والإخاء. وسعدية هي رئيسة القسم الذي يعملان فيه.. شوف الحرب ومآلاتها على المجتمع، وهذا غيض من فيوض لقصص سوف تنشر إذا شاء الله أن تقف هذه اللعنة…
في ضل سعدية وسعيد كانت بداية، وربي يعجل بالنهاية.
مع ودي
وإلى براحات ضل أرحب
شارك المقال