• في فجوة الزمان حين تصدعت أسطر الخلد، وانكسرت منارات الصبر، وأصبحت الأرض تنافس السماء في البكاء، انبثقت من بين ركام الوطن شمس لم تكن في حساب المنجمين.. سبحاء العطاء، أولئك الذين صاغوا من دموع اليتامى قلائد نور، وبنوا من عظام الشهداء قبب رجاء تناور سموق السماء. ما كانت الفكرة يوماً مجرد همسٍ في أذن المحبة، بل كانت الزلزلة التي أيقظت السهول النائمة، فانطلقت الأصوات تتعدى حدود الجروح. «غرف الطوارئ السودانية»… سبعمئة قمر سوداني تزينت بهم سماء الإنسانية، كل (غرفة) منها كنز من كنوز الأمل، تنفس الأجساد المتكدرة، وتعيد للروح شتاتها المبعزق. لقد ترجمت الأكوان هذه الملحمة بلغة الجوائز، فتنادت (نوبل) و(رافتو) كأنما تناجي البزوغ.. ها قد ولد الفجر من جديد.. غير أن السبحاء لم يتشوَّقوا لأن يكونوا أهل جائزة، بل أرادوا أن يكونوا فاعلين وبارقة أمل لكل إنسان ظمآن إلى الكرامة. يكفيهم أن يعيدوا للعينين برق البشرى، وللطفولة أغنيتها المسروقة، وللأمومة هيبتها المبعثرة، وللحروف نقاطها المنقطعة.. يذرون في تراب اليأس بذور العمر، فتنبت الأرض قدساً أخضر تحت أقدام المتألمين. لكن الدرب إلى هذه العلا كان مسجوراً بشوك الألم، يمشون عليه حفاة، تدقُّ أقدامهم الحجر فتنبت غرفهم دماً. مئة شهيد من خيرة الفتية، سقطوا كالنجوم الزوار، لكن كل نجمة منهم تفجرت فجعة أخرى، فصارت شموساً تضيء للقافلة طريق المضي. يكتبون في ظلمة العزلة بصيص البصيرة بلسان الضاد الفصيح، كأنما يرتِّلون سورة من سور العلم، فيصبح الشوف أغنية، والبذل قصيدة. امتلكوا الأرصفة بعرش الكبرياء، يبيعون الغذاء بثمن ابتسامة واجبة السداد، فكل لقمة سائغة تمرُّ بأيديهم تصبغ الحياة بلون الصدق، وتعطِّر أنفاس العوز بعبوق العزة. حولوا محنة الغربة إلى منحة إبداع، فنصبوا حناجرهم بالنغم فوق دوي المدافع، يناجون الظلام حتى يستحي فيقبل إشراقاً. وخلف هؤلاء الأبطال، يقف عشرة آلاف متطوع، بل أكثر.. كلهم نذروا أنفسهم قرباناً للرفد، يحملون في أكفهم العطرة معنى للحياة، فتنبت الأرض ربيعاً لا يموت. لقد علمونا أن الظلام ليس إلا جنحة ليل تستعد للفجر الجديد، وأن إنسان السودان أعظم من كل دمار، وأن روحه أقوى من كل سلاح. في كل غرفة من غرفهم تولد قصيدة، وفي كل خطوة من خطواتهم تروى ملحمة. هم الأمل الذي لا يموت، والنور الذي لا يطفأ، والغد الذي يناجينا: صباحكم آتٍ، ومساؤكم طمأنينة، وبينهما سودان لا يموت. طوبى لسودان خلق من نورٍ تسرّب أولاً من عيون أولئك الشباب، فصار الوطن ليس رقعة جغرافيا، بل دفق يتكاثر في صدورهم، كلما ماتت في الأرض فكرة. طوبى لأرض لا تُقاس بحدودها، بل بعدد من حملوا في قلوبهم قبراً صغيراً لكل جرح.. وجعلوا الأمل جنة لا تُورق إلا في صدور الذين سبقوا الموت إلى الموت، فانتصروا. طوبى لزمن سيأتي ليس فيه سؤال: من أنت؟ بل كم من نور تركت وراءك؟ فيُخرج السودان من جيبه أسماءهم كأنها آخر عملات الوجود، فيدفع بها ثمن الخلود، فيُشترى الوطن ولا يُباع، وتُشترى الأرواح ولا تُعدّ.