رواية عطبرة للكاتب الحسن محمد سعيد (2-2): سؤال التنوع.. أجوبة المكان
Admin 13 سبتمبر، 2025 286

عامر محمد أحمد حسين
الرحلة والشوق
• «وصلت موقف الباصات ودلني بعض الناس على الشركة ذات العربات الجديدة والممتازة (إنها كالطائرة ) قال أحدهم فذهبت إليها وعندما سألت عن تذكرة علمت ان التذاكر (خلصت) فأنتابني ضيق من حظي العاثر .أتجه بصري نحو نداءات بعض «كماسرة» الباصات الأخرى الأقل جدة وجودة (فأنا لا ارغب في التأخير وحنيني إلى عطبرة صار ماردأً ياخذ بتلابيب نفسي–رواية عطبرة .ص ٢٩».. متابعة الراوي مسارات الامكنة ووصوله من محطة إلى أخرى يرتبط بالغياب الطويل،ومشاهد حياتية تتميز بتفاصيل صغيرة يغفل عنها بعض السراد في ظل هرولة شديدة نحو رص اللغة كبديل مضمون يخفي ضعف السرد، ولكن المفارقة ان كل الروايات العظيمة في تفاصيل سردها خيوط صغيرة منتظمة يتابعها القارئ ويجد فيها مع المتعة صورة مجتمع يعيش فيه وتغيب عنه تفاصيله، وهنا تاتي مقدرة السرد في إظهار مالم يلحظه القارئ وابداع نص متكامل وممتع ويساهم في المعرفة..
أبعاد اجتماعية
..وترى دكتورة «هويدا صالح «في كتابها» الهامش الاجتماعي في الأدب–قراءة سوسيو ثقافية « دراسة الأدب عبر التحليل السوسيولوجي الذي يتيح تتبع شروط إنتاج هذا الادب،وإعادة إنتاجه في الأنساق المجتمعية فالأدب والاديب تحديداً لايكون بمعزل عن الفعاليات والظواهر والحركيات التي تعتمل في رحاب المجتمع ،بل يوجد في كثير من الأحيان على خط التماس معها ،فليس هناك من ادب منفصل عن شروط المجتمع الذي يتأسس فيه « (٥). ومن شروط هذه السردية التي تظهر عدم انفصالها عن المجتمع ماكان من حضور المراة -الشقيقة عند الأوبة من السفر وتفاصيل المغترب وهداياه..والحاجة ست البنات واعتقاداتها وقيمها التي حملتها معها عند زيارتها لأبنها في مهجره.»ومن هو الذي لايعرف(سيدي الحسن) او لايؤمن به؟ هذه المفاهبم التي تربت عليها وكونت جزءا كبيرا من موروثها ومعتقداتها القائمة على التصالح، والتسامح –هل يمكن ان تلغى وتشطب بمثل هذه البساطة التي تصادر تراكم قناعات هي والوجود شئ واحد» «هرعت إلى الحاجة ست البنات وحضنتني بحرارة وحنان ولسانها يلهج بأحلى الكلام وأعذبه..فأرتحت على صدرها وخياشيمي مليئة بتلك الرائحة العاطرة ذات الأثر المسكن لأي توتر نفسي ..هذه السيدة جميلة في كل شئ مميزة وفريدة ذات طعم خاص بها فتمنيت ان أنام على صدرها الحاني كطفل عاد إلى حضن امه بعد ان تاه عنها طويلاً»..رواية عطبرة ص٤٥»

مشاهد
«محطة السكة حديد هي كما ألفتها منذ سنوات طويلة ولكنها خاوية من القطارات»
«الورش والعمال بقايا حياة كانت حافلة..المرفق الشريان صار ضحية حكام آخر الزمان..يتحول الجبروت الى معاداة مدينة؟!»
«الساحة الكبيرة التي كانت مرتعاً للذكر النبوي الشريف والليالي السياسية لحقها تغير الحال كما لحق غيرها..هذه الساحة كانت مدرسة نقابية وسياسية تعلمنا فيها معانى الاستعمار والنقابة والحزب والوطن والنضال والمقاومة..منحتنا القدرة على الحوار وتفسير الوقائع والظواهر..عرفت الساحة» قاسم امين» بقامته الطويلة الفارعة وسحنته الداكنة السمرة وبنطاله الجبردين وصوته العميق الذي يخاطب العقل والفؤاد (ايها المواطنون احيكم اطيب تحية)–رواية عطبرة ص ٥٠-٥١-٥٢».. تمبزت رواية عطبرة بسمات عديدة منها براعة الراوي العليم في رسم شخصيات متخيلة او واقعية نابضة بالحياة ومتفاعلة مع مجتمعها وهي حقيقية في حيثيات ومتخيلة في اخرى وكائنات حية ولم تكن على هامش الحياة وإن لم نتعرف عليها الإ الآن ولكنها جزء من مجتمع مدينة في المتخيل والواقع اسطورة تمشي بين الناس.
حكاية ابن عوف
شخصية ابن عوف ،تمثل المفتاح لكشف الذات، والهوية، والوجود وأسئلة التطور على مستوى الفرد، والمجموع، مع الانحياز لقضايا العدالة ،والحرية وهذه السمات كتجسيد للمكان وارتباطه بالابعاد الثقافية والحضارية، لمجتمع يعيش على هامش في عالم متغير إلا ان الإنسان في حيزه المكاني وجغرافية حياته، وسلوكه ظل في حالة اكتمال معرفي وحضاري وغير معني بتخلفه المادي .حضارة نيلية راسخة ومستوعبة، لكل غريب يعيش في ربوعها ،فيحمل سمت ربعها فيصبح جزءا من نص الحياة وإضافة لها.»ابن عوف لم يتعلم إلا في خلاوي البلد عندما استلم العمل منح بدلة المراسلات الرسمية»يونيفورم» وهي من الكاكي عليها علامة السكة حديد من النحاس الأصفر على شريط احمر-جاءنا سعيداً يشع الفرح من عينيه ،أخذ يقص علي حديثاً طويلاً عن المكاتب والموظفين والترتيب والنظافة والاحترام-كان حريصاً على عمله وكل التوجيهات التي تصدر سواء في المواعيد اونظافة بدلته وحسن هندامهبرع ابن عوف بكرة القدم ولعاً شديداً واخذ يتحسن فيها بنفس السرعة التي اخذت لهجته تنعدل إلى لهجة المدينة واسلوبها في الحديثبدأ اسم ابن عوف يلمع في سماء كرة القدم في عطبرة واخذت شهرته تجوب آفاق المدينة-انتهى الأمر بأبن عوف الالتحاق بأحد اندية الدرجة الأولى وسجل بها كلاعب أساسي. تحسن وضع إبن عوف بفضل كرة القدم،»
الانتقال
تغيرت حياة» ابن عوف» وانتقل للعب في احد اندية الخرطوم الكبيرة.وبعد تجربة قصيرة يعود إلى عطبرة « عودة ابن عوف من هجرته الى العاصمة تركت في أعماقه شيئاً لم يكن قادراً على إدراكه ،إذ اخذ عشقه لكرة القدم يتناقص.ويتحول الاهتمام إلى القراءة والأطلاع .حياة عطبرة الاجتماعية بذرت في نفس ابن عوف شجرة الطموح إلى العلم والمكانة الاجتماعية التي تتجاوز شهرة كرة القدم.قرر ان يجلس لأمتحان الخدمة المدنية بعد ان اعد نفسه إعداداً طيباً وجاداً..السياسة بدأت تشغله وتنال اهتمامه.قبض على ابن عوف في إحدى المظاهرات بعد تجمع عمالي اعلن فيه الإضراب.وصل الخبر إلى ابي (فتأكد) إن ابن عوف اصبح شيوعياً.فالشيوعيون في نظر أبي هم الذين يقودون النقابة وهم الذين يعلنون الإضراب وهم الذين يشعلون المظاهرات»

الطريق
تقول دكتورة هويدا صالح في كتابها «الهامش الاجتماعي في الأدب..قراءة سوسيو ثقافية « «اكتسب المكان في الرواية أهمية كبيرة ،ليس لأنه أحد عناصرها الفنية او لأنه المكان الذي تجري فيه الحوادث ،وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب ،بل لأنه يتحول في بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية ،بما فيها من حوادث وشخصيات ،ومابينها من علاقات ويمنحها المناخ الذي تفعل فيه وتعبر عن وجهة نظرها ،ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية،والحامل لرؤية البطل،والممثل لمنظور المؤلف،وبهذه الحالة لايكون المكان مجرد مسرح تنهض عليه الشخصيات والأحداث بقدر مايكون احد أهم مكونات العالم الروائي،وأحد وسائل الروائي ليصيغ رؤيته للعالم (فالمكان ليس عنصراً زائداً في الرواية ،فهو يتخذ.أشكالاً ويتضمن معان عديدة،بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله) 6..»
إيواء
«ذات مساء جاء ابن عوف وهو في حالة ذعر ..قال:ان البوليس قبض عليه في زاوية مظلمة وهو متلبس يوزع المنشورات ..فترجاه ان يتركه ولكنه أصر على القبض عليه كانه وجد مطيته لترقية وشريط إضافي..وعندما شعر بأنه لم يعرفه وان بنيته ضعيفة لطمه لطمة ماحقة فأرداه ارضاً بلاحراك وزاد من ذلك وقوع دراجته عليه بقوة على صدره ورأسه فأزداد الأذى ..ربما قد يكون مات وحينما نطق(الموت) ارتعد وغطى وجهه بكلتا يديه قائلاً»يا إلهي مات….رواية عطبرة..ص..٨٦» من هذه النقطة تبدأ مرحلة جديدة في رحلة ابن عوف ،وهي رحلة المكان-الارض-السكة حديد-كرة القدم-الهجرة-العودةالسياسة.. «كنت اظن ان هذه الواقعة ستجعل ابن عوف يرعوي ويكف عن توزيع المنشورات ..لكن ابن عوف هو ابن عوف العنيد إن آمن بشئ يمنحه مستوجبات هذا الإيمان قولاً وعملاً ..فعاد إلى سيرته الأولى..في البداية اكتفى بصياغة المنشورات بأسلوبه الجميل وعباراته الملتهبة وجمله الرنانة التي تفعل في الناس فعل السحر..رواية عطبرة ص٨٨» «في حياتي لم اسمع ابن عوف يتحدث عن النساء،ولم ألتفت إلى هذا السلوك منه الإ في ذلك اليوم حينما طلب مني أن نذهب إلى الحلة …وكأني اعايره بطريقة غير مباشرة (لم اكن اعرف انك رجل إلا الآن )فغاظه ضحكي وسخريتي ،فكتم غيظه في نفسه واخذ يدي بشدة وجرني بطريقة فيها كل السباب واللعنات..وماهي إلا لحظات وكنا امام بيت احدى بائعات الهوى في الحلة فأخذ ابن عوف يخبط على الباب بطريقة فيها نغم راقص من نغمات(دليب) ففتح الباب ،فرأيت بدراً يطل علينا مع ابتسامة كفلقة القمر عندما وجدت ابن عوف امامها وقالت بلهجة حبشية (تفدلو) وهي تسيل رقة وعذوبة…إنها (سهايتو) التي كم وقفت واصدقائى على بابها فلم تفتح الباب ولم ترد بكلمة طيبة..هذه (سهايتو) التي رأيتها وجلست اليها بفضل هذا القروي الذي جاءنا على فطرته القحة في بدائيتها وسذاجتها فنجح في كل شئ تعلقت همته به .كاد الفضول يقتلني وابن عوف لايشفي غليلي بالرد على أسئلتي الحائرة..كيف تعرف عليها ؟.كان ينظر من طرف عينه كأنه يقرأ مابداخلي تركتنا وذهبت لشأن من شؤونها وأخذ ابن عوف يحدثني في أمور كثيرة متفرعة في كرة القدم والسياسة والأدب وانا ساهم ساه عن كل مايقوله»-رواية عطبرة».ويسرد ابن عوف حكايته»كنت اقوم بتوزيع المنشورات فداهمني البوليس ..استطعت الهرب منه مستغلاً سرعتي وطاقتي في التحمل متخذاً الشوارع الخلفية في محاولات الهرب وخلال ركضي فات علي التخلي عن المنشورات التي احملها ولشدة ذعري توقف تفكيري وانا اجرى بلاهدى ،فوجدت هذا المنزل مفتوح الباب وحالي يغني عن سؤالي .. فوجدت هذه السيدة امامي فقلت لها صادقاً: انا هارب من البوليس وكنت اوزع هذه المنشورات…وصمت وقد ايقنت اني هالك..وما ان انتهيت من حديثي وقد لاحظت حالة الخوف التي تكسو وجهي حتى اسرعت إلى اغلاق الباب ثم اخذتني وبسرعة فائقة كمن تدرب على مثل هذه المواقف أخذت تغير هيئتي –رواية عطبرة ص ٩٨»..هذا الموقف الإنساني الذي تحول إلى موقف بطولي يمتد بأمتداد الحالة الذهنية للحدث والوطنية في مقاومة الاستبداد و توافق بين ابن عوف وسهايتو ،»في تلك الاثناء كان البوليس يتتبع خطاي في غير هدى فيدخل البيوت في هذه الشوارع الخلفية،ومن ضمنها دخل بيت سهايتو،ليجدني جالساً معها وفي هذا المكان بالذات….ولحظتها كنت ابن عوف لاعب الكرة-رواية عطبرة..ص ٩٩». وتستمر حكاية ابن عوف وسهايتو «انطلى الموقف على البوليس –رواية عطبرة ص ٩٩»
حكاية عشق
يقول الدكتور «محمد برادة» في كتابه»الرواية العربية ورهان التجديد»العنصر الثالث في نقد المحرمات،هو السياسة .وهذه الثيمة أقترنت بظهور الرواية العربية لتعبر عن تطلع عميق إلى التحرر من الاستعمار ونزوع إلى النهوض وتطوير بنيات المجتمع ومؤسساته .وبعد الاستقلالات ،غدا حضور السياسة في الرواية العربية متصلاً أكثر بأنتقاد الاستبداد والديكتاتورية،راسماً نماذج للمناضلين في سبيل التغيير والديمقراطية» (٧)..»لقد جاءت إلى السودان وهي طفلة في السادسة مع والدتها ..واستقر المقام في القضارف…فجلست في القضارف حتى بلغت العاشرة ثم ارسلتها امها الى كسلا..
وصادف ان جاءت شقيقة والدتها إلى كسلا فأصرت على اخذها معها إلى بورتسودان لتعلمها في مدارس كمبوني-وتعلمت في مدارس كمبوني حتى بلغت العشرين فتخرجت فيها وهي تجيد اللغة الانجليزية والعربية واتقنت مهنة مسك الدفاتر والطباعة على الآلة .ولحسن حظها وجدت وظيفة في احدى شركات الملاحة-خلال عملها تعرفت على شاب من بني جلدتها يعمل في احدى شركات التبغ ..وكان جل عمله مع شركة الملاحة ،فنشأت بينهما علاقة صداقة ..وشيئاً فشيئاً اخذ هذا الشباب يحدثها عن (ثورة الجياع) وانه عضو فيها ويتبرع لها بالمال وطلب منها ان تعمل مثله فتتبرع بجزء من دخلها (لثورة الجياع) ففعلت»-رواية عطبرة ص.١٠٥». تحفل كتابة الروائي والقاص الحسن محمد سعيد ،بتفاصيل سردية صغيرة تحكي عن سيرة ومسيرة مجتمع ومصائر افراد على هامش الحياة ،كانوا ابطالاً قاوموا التيار والظروف ..ومابين سفر سهايتو إلى روما،والوفاة المأساوية لابن عوف. فإن الرواية نجحت في مهمة تعيين الصلة بين واقع معاش بملامحه الواضحة والمتسامحة في مجتمع مدينة عطبرة .في قالب سردي تمتع بثراء الحكاية، وبساطة اللغة، وعمق الفكرة، وهذا ممايجعل الرواية تتطلب قراءات اخرى ..
المراجع
١/أنماط الرواية العربية الجديدة..د.شكري عزيز الماضي.ص.١٢.كتاب عالم المعرفة-الكويت..سبتمبر٢٠٠٨م.
٢/صدى الذاكرة- دراسة في جماليات المكان السردي د.محمد اسماعيل اللباني ..ص٢٧-٢٨.دار مدارك للنشر الشركة السودانية للهاتف السيار (زين) طبعة اولى ٢٠١٨م.
٣/عصر الثورة -اوروبا (١٧٨٩م-١٨٤٨م) إريك هوبزباوم .ص١٣٦..ترجمة دكتور فايز الصباغ..مؤسسة ترجمان.مركز دراسات الوحدة العربية.ط اولى ٢٠٠٧م.
٤/مدينة باريس–عالم الفكر .يناير-مارس ٢٠١٠م.دراسة «باريس عاصمة التنوير والثورة-بحث في المعالم الفلسفية والسياسية.د.الزواوي بغورة.ص ٨٤.
٥/ الهامش الاجتماعي في الادب -قراءة سوسيو ثقافية..د.هويدا صالح. ص ١٢٧دار رؤيى للنشر والتوزيع..مصر ٢٠١هم.
٦/الهامش الاجتماعي في الادب.ص١٩٧.مصدر سابق.
٧/الرواية العربية ورهان التجديد.د محمد برادة.ص ٦٤.كتاب دبى الثقافية مايو٢٠١١م.
شارك القراءة