معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

كاتب صحفي ومحرر صفحة السودان الأخضر «فويس»

• في زوايا الحياة كثيراً ما نعبر على مواقف عابرة ولكنها تحمل في طيّاتها شجناً جميلاً وإنسانيةً عالية.

وربما خيطاً من الضوء يذكرنا أن الخير لا يزال حيّاً بيننا.

وأن القلوب التي تحب وتؤمن وتسامح هي أجمل ما يمكن أن تتركه الحياة فينا.

في أحد الأحياء دخلت فتاة إلى متجر مواد غذائية كانت ترتجف لكنها تخفي ارتباكها بإبتسامة رقيقة. 

طلبت دقيقاً وبعض الزيت وكيساً من السكر…!

قالت بخجل مكسور:

«في بيتي أطفال ينتظرونني ووالدي خارج البيت وقد تأخر ولا أملك وقتاً لأنتظره كي يعود ويمنحني النقود ، لذا أرجوك أن تمنحني مهلة حتى الغد.

لم يكن معها ما يكفي، لكن كان معها ما هو أعمق…!!! الثقة…!!!

الثقة في اسم والدها الذي قالته بيقين وكأنها تستند إلى جبل من الطمأنينة. 

حين سألها البائع عن اسم والدها فذكرته له وطمأنها أنه يعرفه فهو من رواد المسجد.

فأعطاها ما أرادت دون أن يزيد في السؤال أو ينقص في الكرم.

غادرت ….! ولم تعد ….!

لكن البائع لم يغضب فقط احتفظ بالدَّين في قلبه وأرجأ المساءلة لوقت مناسب.

حتى صادف ذات يوم الرجل المزعوم والدها فحدثه بحياء: فأعتذر الرجل بإبتسامة وشيء من الذهول ثم دفع له الثمن كاملاً…!

وقال له بهدوء:إذا عادت إليك فأعطها ما تشاء.

وتعال خذ حقك مني.

بعد أن دفع الأب ثمن حاجيات الفتاة على ذمة الدين واصل في مجلسه في المسجد في انتظار الصلاة وعيناه تحملان هدوء الإنسان الذي أدرك معنى الرحمة. 

وفجأة اقترب منه صديقه القديم الذي لم يكن يعرف شيئاً عن القصة، لكنه لاحظ الموقف.

قال الصديق بدهشة:رأيتك تدفع نقوداً لصاحب المتجر ..! وقد سمعته يقول لك أبنتك…!؟

ابتسم الأب المزيف قليلاً، وأجاب بلهجة تمزج الحزن بالرحمة:

«اعلم ما اثار عجبك يا صديقي…!

فأنت تعلم ان ليس لي أبناء، ولا حتى بنات…!

إنها يا صديقي فتاة غريبة عني لكنّها في وقت ضيقها نسبة نفسها لي،تحمل اسمي كملاذٍ وأمان.

قالت له إنها ابنتي وطلبت بعض الحاجيات وقد أعطاها دون تردد..!

حدق الصديق به بدهشة متزايدة وقال:لكن كيف تسمح لها بأن تنتحل نسبك.؟ ألا يخيفك ذلك.؟ أليس هذا نوعاً من الخداع.؟»

نظر الأب المزعوم إلى السماء لوهلة ثم قال بصوت دافئ:

«ربما يكون ما فعلته ليس حسب القوانين.

لكن قلبي لا يعرف القانون إلا بحجم الرحمة والإنسانية. 

في تلك اللحظة كان بيدي أن أرفض وأفضحها لكنّي اخترت أن أكون لها ملجأ. 

ربما هي لم تجد من يمنحها الأمان فوجدت اسمي درعاً يحميها من قسوة الحياة».

تأمل الصديق الكلام لحظة ثم ابتسم وقال:

«حقاً هذا هو معنى العطاء الحقيقي ، أن تكون إنساناً حتى لمن لا تعرفهم.»

نعم … برغم أن تصرف الفتاة مذمومٌ من حيث كونه انتحالاً لصفة ليست لها ونصب وإحتيال إلا أن العبرة الكبرى ليست في تصرفها بل في ستره لها. 

سترٌ لا يُقاس بالقانون…! بل يُوزن بموازين السماحة والإنسانية.

فقد كان بإمكانه أن يفضح لكنه اختار أن يستر وأن يجعل من اسمه غطاءً يُعفي قلبها من الإحراج ومساءلة الحاجة.

هكذا تكون العظمة لا ضجيج فيها فقط قلب يتسع لكل غرباء الأرض كأنهم أهله. 

أن تكون إنساناً في زمن الغفلة.

أن تكون وطناً حين تضيق الأوطان.

وكم من فتاةٍ وضعتها الحياة في مأزق فاستغلها ضعيف نفس لا يعرف للرحمة باباً ولا للستر طريقاً..!؟

وكم من أنثى خبأت ضعفها خلف ابتسامة كي لا تنهار فوجدت من يُسيء إليها ويكسر ما تبقى من كبريائها!؟.

وكم من قلبٍ طرق أبواب البشر يستنجد بهم ففتحوا له أبواب الجحيم بدل الحضن!؟.

وكم … وكم … وكم.

لكن هنا في هذا المشهد النقي كانت الحكاية مختلفة.

رجلٌ غريب جعل من اسمه عتبة نجاة ومن قلبه مأوى ومن مروءته عباءة دافئة لستر فتاةٍ لم يعرف اسمها لكنه عرف كإنسانة في لحظة خوفها فآوى ضعفها دون سؤال وصدّق حاجتها دون أن يعرفها.

صدقاً … حين نرحل لن يذكرنا الناس بأسماء حساباتنا البنكية بل بأسماءنا التي استظلت بها قلوبهم يوماً حين كانت الحاجة أكبر من الكبرياء.

سنرحل …

ويبقى الأثر …

ويبقى الكرم والستر من صفات العظماء.

الإنسانية ليست مجرد كلمات تُقال بل أفعالٌ تُمارس. 

أن نمد يد العون دون سؤال وأن نمنح الأمل لمن يطرق أبوابنا حتى وإن كانوا غرباء فهذا هو جوهر الحُبّ الحقيقي وروحه.

قد نكون جميعاً في لحظة ضعف نحتاج من يمد لنا ذراعه ومن يحمل عنا ثقل الحياة ومن يزرع في قلوبنا دفء الرحمة والكرم.

فلتكن قصتنا هذه نوراً يضيء دروبنا ويذكرنا بأن وراء كل اسمٍ مستعار قلبٌ ينبض بالاحتياج والصدق وبأن وراء كل عذرٍ قصة تستحق أن تُسمع وتُحتضن.

فلنكن من يمنحون الستار لا من يرفعونه.

ولنزرع في أيامنا بذور المحبة والصفح لأننا بذلك نزرع الحياة بأجمل صورها.

إن العظمة ليست في الكمال بل في القدرة على الرحمة والاحتواء والستر.

سترني الله وإياكم في يوم عبوساً قمطريرا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *