رحلة متعمقة في كتابات الراحل محمد خير عبد الله (2-2)

112
غلاف ثاني
Picture of تحقيق: نبوية سرالختم

تحقيق: نبوية سرالختم

• المفكر والكاتب الراحل محمد خير عبد الله لم تكن وفاته مجرد حدث عابر في حياته الأدبية بل تجسيد لرؤيته التي عاش من أجلها فالموت في كتاباته أداة للتأمل في الحياة ووسيلة لفهم العبثية والوجود الانساني وأداة لمقاومة القمع والظلم كانت وفاته بمثابة اختتام طبيعي لفكرته عن الموت كوسيلة للإرتحال والتحول بل وايضاً إعادة تشكيل الفهم الأعمق للوجود لهذا كان مستعداً للموت ، ليس كخوف ، بل كتحقيق لقيم دافع عنها مثل : الصدق، المواجهة، التحرر.

المتأمل في كتابات الراحل يكتشف في كل مرة ان أعماله أظهرت الموت في العديد من الصور منها : انه وسيلة لفهم جوهر الحياة التي تمكن الشخص من خلال التفاعل معه وتقبله رؤية الواقع على حقيقته بعيداً عن الأوهام ففي «شجن الروح شغف الجسد» مثلاً يقول : «الموت ليس نهاية للوجود، بل بداية لفتح الأعين على الأشياء التي لم نكن قادرين على رؤيتها في حياتنا.»

 أي ان الموت يفتح اعيننا على حقائق كانت غائبة عن اعيننا في غفلة الحياة التي حالت بيننا ومعرفة المعنى المقصود من وجودها بمعنى آخر ان فقدان الحياة إنكشاف لمعاني اعمق ومن ناحية اخرى فيقول: «في كل موت، هناك أسطورة تولد من جديد، وتفتح لنا الأبواب لقصص لم تكتمل بعد.» وأيضاً «عندما يموت الإنسان في هذا العالم، فإنه لا يموت فعلاً. بل يكتشف نفسه في تلك اللحظة التي تتخطى كل حدود هذا الواقع المؤلم.».

ويشير إلى تجربته الشخصية والتي تؤكد على سعيه الدؤوب في رحلة اكتشاف ما وراء الموت الحقيقي فيقول «كانت كل لحظة في حياتي تدور حول الموت، لكنه لم يعطني أبدًا إجابة. كان العبث هو الحقيقة الوحيدة التي اكتشفتها.» ويكتفي فقط بالإشارة إلى نوع آخر من الموت والذي  يأتي في سياق النقد للواقع السياسي والاجتماعي ويحمل في باطنه جذوة الثورة على الواقع»الموت ليس نهاية؛ إنه حالة من التغيير، ومن التحول الدائم.» اذ ينظر إلى المتمسكين بحياتهم ويعيشون في ظل واقع ملئ بالظلم والقهر بأنهم قد خانو انفسهم في سبيل الهروب من الموت الذي تذوقوه عدة مرات ولم يستبينو حقيقته ويمكن ان نلمس هذا في جزئية من روايته «ليلة قتلني الرئيس» حين قال : «أنت تموت مرات عدة في حياتك، ولكن الموت الحقيقي هو الذي لا ينتظره أحد، حين تكتشف أنك خُنت نفسك في سبيل الحفاظ على الحياة.».

وهذا الاقتباس يؤكد الحقيقة التي اشرنا اليها والتي تقول ان الموت له عدة اوجه من ناحية فكر الراحل هناك موت حقيقي وموت غير حقيقي فالموت غير الحقيقي هو العيش في ظل نظام قمعي ويسعى له الكل بينما الموت الحقيقي الذي لا ينتظره احد هو التحرر من هذا القمع والاستغلال بما يمكن الشخص من اعاده بناء نفسه بعيداً عن هذا الواقع المظلم فالموت الأول خيانة والثاني إعادة بناء للنفس المحطمة بفعل الظلم ويستعرض الكاتب في روايته «لعنة الحنيماب» نماذج اخرى من الموت غير الحقيقي مثل ذلك الذي يحدث في لحظات المواجهة مع الذات في اوقات الصراع الداخلي واوقات الإصطدام مع الأحلام والتوقعات التي لم تتحقق فالموت يبرز هنا كنتيجة حتمية للخيبة والفشل في تحقيق الذات وتلبية احتياجاتها في مواجهة المبادئ اي الموت يأتي في لحظة العجز النفسي والروحي فيقول : «نحن لا نموت من جروحنا الخارجية، بل من تلك التي تصيب أرواحنا عندما نتخلى عن أنفسنا.» ويؤكد على هذه الحقيقة التي آمن بها في روايته «سيرة قذرة» حين قال: «الموت الذي يلاحقني ليس ذاك الذي ينتظرني في النهاية، بل هو الموت الذي بدأ منذ اللحظة التي ابتعدت فيها عن نفسي.».

وهنا يجعل الراحل الفرق بين الموت في الحالتين اكثر وضوحاً فالموت الحقيقي كما اشرنا اليه في السابق كان الراحل يلاحقه ليستبين حقيقة لم تتكشف له بعد يرى فيها الخلاص وبين موت غير حقيقي يلاحق الراحل وهو موت يكشف حالة الاغتراب الروحي في ظل نظام قمعي يسوده القهر والظلم فالراحل وقتها لم يحن اجله الجسدي بل كان يحس ان روحه ستموت بالابتعاد المستمر عن جوهر وجودها في ظل واقع ملئ بالخيبات والتحديات والعجز وتعد محاولة التمييز بين الموت في الحالتين محاولة لإستكشاف حدود الوعي فالراحل يرى ان الحياة موت طويل رغم قصرها في إشارة إلى عمق المعاناة فيها والموت حياة قصيرة رغم طولها لسهولة إدراك الحقيقة بعدها من هنا يطرح الراحل فكرة لايمكن ان تتكشف الا من خلال التجربة الذاتية فيقول»أن الحياة والموت ليسا مجرد حقيقتين متناقضتين، بل هما جزء من دورة مستمرة تستحق التأمل العميق» ويمكن ان نلتمس ذلك في اقتباس من روايته «هذيان كهل» «الحياة موت طويل، والموت حياة قصيرة. ومن هنا تأتي المعاناة في محاولة الإلمام بما بينهما.».

وتعتبر الدعوة التي ارسلها الراحل كانت محاولة منه ازالة الوحشة العالقة بأذهان المظلومين والمقهورين عن الموت الذي يبدو في ظاهره مروعاً ولكنه يحمل في مضمونه التحرر النهائي والوسيلة الأنجع لتحقيق الحرية ففي رواية المانوس يحاول ان يخفف من هول تصورات المضطهدين عن الموت فيقول : «الموت لا يمكن أن يقتلنا في النهاية، لأنه ما من شيء يمكن أن يُقتل في هذا العالم الذي لا يزال فيه بعض الأمل في الهروب.».

 فالموت الذي يهرب منه المضطهدون هو سبيل للحرية والعيش في ظل نظام غير عادل وقمعي هو ما يجعلهم يموتون عدة مرات في سبيل الهروب من الموت الحقيقي الذي يحقق الانفلات من القيود الاجتماعية والسياسية التي لا تتحقق فيها تطلعات الذات الانسانية فيقول» في عالم مغلق، لا فائدة من الحياة ولا من الموت. نحن ضحايا، والموت هو الحل الوحيد.» وأيضاً «قد يظن البعض أن الموت نهاية، لكنني أرى أن الموت هو بداية رحلتنا إلى عالم آخر لم نكن نعرفه بعد.».

ويقول أيضاً للفارين من حقيقة الموت إلى الموت على حافة القهر ان الموت الحقيقي في كل تفاصيل حياتكم وهو حالة تترصدكم ولا مفر منها اذ ما تكشفت عين بصيرتكم عنها ستجدون حقيقتها تتسلل اليكم بين الاحداث البسيطة في حياتكم اليومية أي أن الموت الحقيقي الذي تفرون منه هو معكم ولا يمكن بأي حال من الاحوال الهروب منه ويمكن ان نلتمس ذلك في جزئية مقتطفة من رواية «لعنة الحنيماب» إذ يقول «إن الموت ليس كائنًا بانتظارنا في الزمان والمكان، بل هو في التفاصيل الصغيرة التي لا نلاحظها في حياتنا اليومية.».

وبما أن رحلة البحث والغوص في كتابات الرحل محمد خير عبد الله تمثل الغوص في بحر لا قرار له لإرتباطه بالبحث عن حقيقه الوجود في معنى الحياة والموت ورسالته العميقة في هذا الجانب سنكتفي بالإشارة إلى ما قاله في روايته هذيان كهل «الموت لا يعنيني بقدر ما يعني لي أنني عشت في عالم بلا معنى، وأن تلك الحياة كانت تتجسد في خيالات سخيفة.» وبما قاله في روايته لعنة الحنيماب «الموت هو لحظة الانبعاث في جسد جديد. في الموت لا ننتهي، بل نعيد بناء أنفسنا كما نشاء.»

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *