

تحقيق: نبوية سرالختم
• الموت.. تحقيق لقيم الصدق والمواجهة والتحرر
الراحل : كلما اقتربت من الموت أشعر أنني أحرر نفسي من ثقل السنوات
المفكر والكاتب الراحل محمد خير عبد الله لم تكن وفاته مجرد حدث عابر في حياته الأدبية بل تجسيد لرؤيته التي عاش من أجلها فالموت في كتاباته أداة للتأمل في الحياة ووسيلة لفهم العبثية والوجود الانساني وأداة لمقاومة القمع والظلم كانت وفاته بمثابة اختتام طبيعي لفكرته عن الموت كوسيلة للإرتحال والتحول بل وايضاً إعادة تشكيل الفهم الأعمق للوجود لهذا كان مستعداً للموت ، ليس كخوف ، بل كتحقيق لقيم دافع عنها مثل : الصدق، المواجهة، التحرر.


كان الراحل محمد خير مستعداً للموت بإعتباره جزء من دورة الحياة المؤلمة التي لا مفر منها وقد ظهر الموت في الكثير من كتاباته كمفهوم مركزي يشكل تصور متكامل عن الحياة والوجود يرسم من خلاله طريق ذي معالم واضحة لكيفية التصالح مع هذه النهاية الحتمية يقول في مؤلفه «سيرة قذرة» : «إننا نعيش لنبني أنفسنا، ولكننا نموت لتكون النهاية الحقيقية قد بدأت. الموت ليس نهاية، هو فقط تحول آخر في معركة لم ننتصر فيها.» وايضاً: «الموت ليس النهاية؛ إنه الفرصة الوحيدة لإعادة اكتشاف المعنى، الذي ضاع في المعركة.»ويعتبر الراحل ان الموت ليس الا اختبار وجودي للشخص ولكن ليس هو النهاية الحاسمة اي انه فقط نهاية جسدية ويظهر الراحل الموت في بعض اعماله بأنه طريقة للتخلص من القيود والظلم الاجتماعي فيقول «كلما اقتربت من الموت، كنت أشعر أنني أحرر نفسي من ثقل سنوات ومن الألم غير القابل للتحمل» وأيضاً «في النهاية، نجد أن الموت هو من يعيد التوازن للعالم، فهو لا يميز بين الطيب والشرير، بل يُظهر الحقيقة كما هي.» اذ اجمع العديد من النقاد ان شخصياته التي ظهرت في معظم كتاباته كانت تفضل الموت على الحياة في ظروف قاسية بإعتبار ان الموت نوع من انواع التحرر من معاناة الحياة وقد قالها بشكل صريح في روايته الساخرة «ليلة قتلني الرئيس» : «قد أختار الموت في لحظة ما، لأنني لا أستطيع العيش في هذا السجن الذي يُسمى حياة.» فهنا الموت لم يكن نهاية بل نوع من الخلاص من الظلم والقمع الذي كانت يعيشها الراحل سواء كانت معاناة مع القيود الوجودية التي تفرضها الأنظمة السياسية او كتعبير عن ازمات شخصية مر بها فقال في ذات الرواية :»الحياة تحت وطأة الكذب لا تستحق أن نعيشها. الموت الحقيقي هو التحرر من هذه الحياة.» وأيضاً «في هذا البلد، الموت ليس موتًا فرديًا، بل موتٌ جماعي. الموت هنا يشير إلى أن الشعب لم يعد يملك القوة لتحمل الواقع القاسي.» ثم يذهب إلى أبعد من ذلك بالقول «أدركت أخيرًا أنه لا شيء في الحياة يستحق العناء. الموت يلاحقنا كظل، ولسنا إلا مجرد محطات عبور.» وأن «الموت ليس نهاية. إنه البداية لحقيقة لا نعرفها إلا عندما نصل إليها.»

كان الراحل يكتشف ذاته من خلال تجربة الموت التي مر بها في كتاباته إذ ان الموت لايأتي فجأة كما هو متعارف عليه بل هو محك ومختبر لحياة الشخص وهو يظهر في كتابات الراحل كمرآة لحياته الشخصية بل فهم عميق لمغزى وجوده هو رحلة مكاشفة مع الذات تسقط فيها الاقنعة التي يتدثر خلفها الشخص طوال حياته ففي مؤلفه المانوس يقول الراحل : «كلما اقتربت من الموت، شعرت أنني أكتشف وجهي، أكثر من أي وقت مضى. هناك شيء ما في الموت يكشف لنا ما كنا نجهله في حياتنا.» ويؤكد الراحل على ايمانه بأن الموت ليس حدث مفاجئ بالقول انه مثل الظل يتنقل مع الناس طوال حياتهم بإعتباره جزءاً من مسارهم الوجودي بالتالي هو امر حتمي لايمكن الهروب منه فهو موجود ومراقب ومتربص ففي روايته «لعنة الحنيماب» يقول : «الموت يلاحقنا أينما ذهبنا، وكأننا نركض وراءه في لعبة لا نعرف قواعدها.» هذه الفكرة عن الموت جعلت الراحل في توقع وقلق مستمر من ظل يلاحقه في مباراة غير واضحة القواعد فيقول :»الموت هو الكلمة الأخيرة لمن لا يمكنهم الاستمرار في هذه اللعبة الظالمة.» والمتأمل في النص يجد ان الراحل يتحدث عن انه يركض وراء الموت لا الموت يركض وراءه في إشارة إلى قبوله وتسليمه التام بالموت كحقيقة مطلقة يسعى لها فيقول : «الموت، الذي طالما خفت منه، بات الآن الأمل الأخير لي. لأنه في هذا العالم المليء بالظلم، لا شيء يمنحك العدالة سوى الموت.» وهذا النص يؤكد ان الراحل كانت لديه رغبة دائمة لإستكشاف حقيقة الموت والتصالح معه وهذه الجزئية تأتي كإمتداد لأراءه الشخصية حول الحقيقة والوجود والتي يمكن ان نقول انها أظهرت الموت بشكل عميق ومعقد وصلت إلى انه كان يستخدمه أحياناً كاداة لفحص الروح والتفاعل مع الواقع المأساوي الذي عاشه فيقول:«الموت ليس النهاية الوحيدة في حياة كنا قد وقعنا في فخها. بل هو الحل النهائي للهرب من عوالم لا تمثل إلا المزيد من السجون».
شارك التحقيق