رحلة إلى أرض الموت والدمار (2)

54
أبوشامة

عماد أبوشامة

كاتب صحفي

• الدكتور عبدالعظيم عبدالله أحد أصدقائي بالفيس بوك أرسل لي رسالة بعد نشر الحلقة الأولى، يقول فيها (تمنيت لو كان عنوان المقال: رحلة إلى أرض الصمود والكرامة بدلاً من رحلة إلى أرض الموت والدمار. لأن المقام مقام انتصار ، أما الحديث عن الدمار والقتل فيأتي لاحقاً). وقد تبنى الدكتور عبدالعظيم موقفاً عاطفياً وربما وطنياً أقدره وأقف إلى جانبه، فالصمود الذي أظهرته عاصمة البلاد أمام أكبر َوأعنف وأغرب غزو يشهده تاريخ الحروب على الإطلاق، لم يحدث خبط عشواء، وإنما كان نتاج عزيمة شعب فريد، تمثّل وتجسّد في رجالات القوات المسلحة والقوات المساندة لها بكل أطيافها واتجاهاتها.. ليت مدونو التاريخ لا يمرون عند هذه اللحظة مروراً سريعاً، فهو بخلاف موقعة كرري بكل بشاعة ما حدث فيها، ولا شيكان بكل زخمها، ولا حتى تحرير الخرطوم ومقتل غردون باشا وبداية عهد المهدية وتاريخها المزوّر.. لا أدري كيف يصنف التاريخ ويضع في أي خانة احتلال الخرطوم وخنقها بتلك الطريقة من مليشيا قبلية جبارة، حتى كاد سكانها أن يفقدوا الأمل في استعادتها وعودة الأمان والاستقرار إليها مرة أخرى. 

التجوال في أرض ومدن وشوارع كان يتجول فيها ياجوج ومأجوج وبقّال والجوفاني وعمر جبريل وودملاح وكل أبواق إعلام المليشيا الزائفة، وقاداتهم الوهمية، قواتهم الهمجية يمارسون غرورهم وصلفهم في وجه الشعب السوداني المشرد في كل بقاع الأرض مع كل صباح ومساء، يبثون تحديهم الأجوف بأنَّ هذه الأرض أصبحت لهم، وأنهم لن يتزحزحوا عنها قيد أنملة.. كنت أقول إن التجوال فيها يزيد من نشوة النصر التي عمّت القلوب يوم أن اجتاح الجيش السوداني العاصمة في وضح النهار، وحررها شبراًِ شبراً بقوة واقتدار.. وإن بقيت منها بضعة أمتار في غرب أمدرمان تمثّل نقص القادرين على التمام، نتمنى أن لا يتأخر إكماله، لأن أعيننا هناك في دارفور الجرح الغائر، الذي يستوجب علاجه ونضافته بعناية فائقة، لا يتجدد بعده نزفه على مر الحقب القادمة بإذن الله.

  إذا عدت بكم إلى وصف الأجواء في الخرطوم بعد تحريرها، ونحن نتجول في أجزاء واسعة منها، رغم أن التجوال كان سريعاً، ولكن مشاهد الدمار والخراب كانت مؤلمة، فهؤلاء الأوباش لم يتركوا مكاناً دخلوه دون أن يضعوا عليه بصمة غلهم وحقدهم، إمعاناً في احساسهم الداخلي أن هذه الأرض لن تكون لهم في يوم من الأيام.. على مدى عامين توسعت مساحة ممارستهم الغبية في كل حي من أحياء مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري وجزء من أحياء أمدرمان.. المكان الذي لم يسرقوه أو عجزوا عن نقل محتوياته دمروه بلا رحمة.. ولكن لاحظت أن الحي الذي كان يكثر وجودهم فيه ويسكنونه بأسرهم- مثل حي المعمورةمثلاً – أقل نصيباً في الدمار والخراب، بعض المنازل لم يطلها ذلك، ربما غادروها على عجل يوم أن هربوا فزعين والجيش يضيّق عليهم الخناق في العاصمة.. دخلنا مدرسة خاصة هناك (في المعمورة)، كانت يهم أمرها مرافقي المهندس معاوية يس، غفيرها لم يغادرها لحظة ومعه أسرته.. وهذه المدرسة لم تنقص منها طبشيرة واحدة، رغم أن جدرانها مرصعة بمكيفات الفريون والاسبلت الغالي ثمنها، وأشياء كثيرة قيمة تكتظ بها حجراتها، حتى إن آخر درس للطلاب قبل نشوب الحرب كان لا يزال على السبورة بتاريخه ١٣ أبريل.. عزا معاوية ذلك إلى أمانة غفيرها، ولا أدري هل كانت تجدي الأمانة شيئاً أمام جبروت جنود المليشيا الذين لا يرحمون متى ما رغبوا في أخذ شيء وسرقته.. وربما في الأمر سر آخر لم نتوقف كثيراً لبحثه، والوقت ليس مناسباً ولا يسعف.

 مؤكد أن السيارات التي سرقت وعبرت إلى دارفور ومنها إلى خارج البلاد، بلغت عشرات الآلاف، ولكن أرتال السيارات المحروقة المنهوبة في شوارع الخرطوم لا يتصورها بشر.. تجدها مكومة بطريقة تبدو غريبة.. هذه غير المتناثرة على جوانب الطرق.. أكثر ما يحيرك لماذا تم حرق أغلبها بشكل كامل، مع أنها سيارات تبدو جديدة وحديثة الموديل.. أحد جنود الجيش قال لنا أغلب هذه السيارات تم إطلاق الرصاص داخل خزان وقودها لتشتعل وتحرق، ولم يستطع أن يفسر لنا سبب هذا السلوك الغريب غير الانتقام.. أعداد كبيرة أخرى نهبت تماماً وتركت كالهيكل العظمي الذي تحلّل لحمه.. وقد فضّل ناهبوها اسبيراتها التي يمكن التصرف فيها بسرعة دون مسؤولية.. مسؤولية الدولة والشرطة أن تعرف أين تباع هذه الاسبيرات.

ما حدث للمباني ومساكن المواطنين ووصفه يحتاج إلى حلقة قائمة بذاتها.

# نواصل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *