
د. حاتم محمود عبدالرازق
لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني
• في خضم المآسي التي فرضتها الحرب في السودان، وجد كثير من السودانيين أنفسهم مجبرين على النزوح والاغتراب في دول الجوار أو في بلدان بعيدة عن أوطانهم. ورغم قسوة التجربة وما خلّفته من آلام وجراح، إلا أن الاحتكاك بالمجتمعات الأخرى كشف دروساً ثمينة، قد تكون بمثابة «رب ضارة نافعة» إذا أحسنا استثمارها.
عادات العزاء بين البذخ والبساطة
من العادات الراسخة في المجتمع السوداني إقامة مراسم عزاء طويلة قد تمتد لأسابيع، مع فتح الأبواب على مصراعيها لاستقبال المعزين، وتقديم الأطعمة والمشروبات على مدار اليوم. وهي عادة تحمل قيمة تكافلية عالية، لكنها امتزجت بالتبذير، وربما أثقلت كاهل أهل المتوفى، الذين هم أحوج للدعم المادي والمعنوي.
في المقابل، لاحظ السودانيون في مجتمعات أخرى، أن مراسم العزاء غالباً ما تُختصر في يوم واحد فقط، حيث يُحدد موعد الصلاة والدفن ثم استقبال المعزين في قاعة مخصصة، مما يخفف العبء على أهل الفقيد، ويحفظ كرامتهم وخصوصيتهم، ويجنبهم التكاليف الباهظة والزحام المرهق.
حفلات الزواج: بين المظاهر والتيسير
وكذلك الحال في الأفراح، إذ تحوّلت حفلات الزواج في السودان إلى ساحة للتنافس في المظاهر، بدءاً من تكاليف الصالات الفخمة، مروراً بالمطربين، وانتهاءً بمآدب الطعام الضخمة، التي أصبحت هاجساً يؤرق مضاجع الأسر، وتسببت في عزوف كثير من الشباب عن الزواج.
لكن التجربة أثبتت أنه بالإمكان التيسير دون إخلال بالفرحة. ففي بعض المجتمعات، تقتصر مراسم الزواج على تجمع محدود للأقربين دون تكاليف مرهقة، وحتى في السودان، حين أجبرت الحرب بعض الأسر على النزوح، شهدنا زيجات بسيطة تُقام في المسجد، مع تقديم بعض البلح أثناء عقد القران فقط، فخففت الأعباء، وشجّعت الشباب على الإقدام على الزواج.
والدين الإسلامي الحنيف سبق أن وضع ضوابط واضحة في هذا الجانب؛ قال تعالى:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «أعظمُ النكاحِ بركةً أيسرُه مؤونةً»، في إشارة صريحة إلى أن البركة لا تكمن في كثرة الإنفاق، بل في اليسر والتيسير.
فالمغالاة في الزواج ليست فقط مخالفة للنهج النبوي، بل هي أيضًا عائق اجتماعي واقتصادي، يحرم الشباب من بناء أسر مستقرة.
ثقافة الاستهلاك والتبذير
إلى جانب ذلك، اعتاد بعض السودانيين على اقتناء كميات كبيرة من الأواني والملابس والمفروشات دون حاجة حقيقية إليها، وكثير منها ذهبت هباءً تحت وطأة النهب والدمار. أما في الغربة، فقد لمسوا كيف يكتفي البعض بضروريات قليلة تغنيهم عن الكماليات.
وقد حذّر القرآن الكريم بوضوح من الإسراف:
(وَلَا تُبَذِّرْ تَبذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) [الإسراء: 26-27].
فالبذخ ليس فقط عادة سيئة اجتماعيًا، بل هو معصية تجرّ المجتمع إلى الفقر والتفكك.
دعوة لمراجعة النفس والتغيير
إن العودة إلى الوطن بعد الحرب يجب أن تكون فرصة لمراجعة هذه العادات، والتخلص من مظاهر التبذير والإسراف، سواء في المناسبات أو في حياتنا اليومية. نحن بحاجة إلى تبني قيم البساطة والاقتصاد، وتوجيه الموارد إلى ما ينفع الناس: التعليم، والصحة، وتحسين سبل المعيشة، بدلاً من هدرها في طقوس شكلية لا تزيد المجتمع إلا إرهاقاً.
ولنغتنم هذه المحنة القاسية كدرس يعيد تشكيل مجتمعنا نحو بساطةٍ تحفظ كرامة الفرد، وتعزز من تماسك الجماعة. فالتغيير يبدأ من الفرد، ثم ينعكس على الأسرة، ومنها إلى المجتمع بأسره. والسؤال الذي يواجهنا:
هل سنعود إلى سابق عهدنا من بذخ وإسراف بعد كل ما مررنا به؟ أم سنتبنى أسلوب حياة جديداً أكثر وعياً واتزاناً؟
الجواب بيدنا، فلنجعل من هذه المحنة فرصة لإعادة البناء، لا في العمران فحسب، بل في بناء النفوس والعقول، وفق هدي الدين الحنيف، الذي يدعو دائماً إلى الوسطية والاعتدال.
شارك المقال