ذهب السودان: من قمم الأسعار إلى هندسة استفادة المواطن

45
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• في 7 أكتوبر 2025 سجّل الذهب قمّة تاريخية جديدة؛ العقود الفورية لامست نحو 3,977 دولارًا للأونصة، فيما ذكرت تقارير أخرى أن الأسعار اخترقت حاجز 4,000 دولار أثناء التداولات، مدفوعة بمزيج من طلب الملاذ الآمن وتزايد الرهانات على خفض أسعار الفائدة الأميركية وتدفّقات قوية إلى صناديق الذهب المتداولة. هذه القفزة ليست رقمًا عابرًا؛ إنها إشارة فنية إلى زخمٍ صاعد طويل المدى، تتخلله موجات تذبذب حادّة، تعكس حساسية السوق لأي إشارات نقدية أو جيوسياسية. ويُقرأ المشهد الفني اليوم على أنه اتجاهٌ رئيسي صاعد مع مستويات دعم فرعية قرب 3.7 و3.5 آلاف دولار إذا تراجعت الأسعار لتستجمع قواها. 

أمام هذا الواقع، يصبح السؤال في السودان أكثر حدّة: بلد ينتج عشرات الأطنان سنويًا، لكنه لا يتيح لمواطنيه مسارًا منظمًا وميسرًا للتداول والادخار في الذهب. بيانات عام 2024 تُظهر إنتاجًا يقارب 64 طنًا موزعًا بين التعدين التقليدي والشركات صاحبة الامتياز، مع صادرات موثقة قاربت 28 طنًا؛ أرقام تكفي لتأسيس سوق داخلي فعّال لو توفرت البنية المؤسسية والتنظيمية. لكن غياب بورصة سلع شفافة، وضعف قنوات الادخار والاستثمار المرتبطة بالذهب، وعبء الإجراءات، كلها تدفع المواطن إلى الهامش، وتغذي التهريب، وتُفقد الدولة عملاتٍ صعبة. 

تجربة غانا تقدّم مسارًا عمليًا. فإلى جانب كونها من أكبر منتجي الذهب أفريقيًا بإنتاجٍ قارب 136 طنًا في 2024، أطلق بنك غانا برنامج الشراء المحلي للذهب، بهدف مضاعفة رصيد الذهب في الاحتياطي من مستوى أولي بلغ 8.74 طن خلال خمس سنوات. هذه الآلية حولت جزءًا من ذهب المناجم الصغير والكبير إلى احتياطي نقدي، وخففت الطلب على العملات الأجنبية، ومهّدت لربط أقوى بين المنجم والقطاع المالي الرسمي. 

الهند اختارت مسارًا مغايرًا بمنتج ادخاري للسكان لا يتطلب حمل المعدن فعليًا. «السندات السيادية الذهبية» تمنح المستثمر فائدة ثابتة 2.5% سنويًا فوق العائد السعري، تُدفع نصف سنويًا، مع تسوية إلكترونية سهلة ومرتبطة بسعر الذهب الرسمي. هكذا حوّلت نيودلهي شغف الذهب إلى أداة ادخار آمنة ومُنظّمة، تقلّص استيراد السبائك، وتُعطي المواطن حصة مباشرة في حركة السعر. 

أما تركيا فتبنّت نهج «تعبئة الذهب تحت الوسادة»، عبر برامج مصرفية ومالية، تستهدف جذب ذهب الأسر إلى النظام المالي. تقديرات صحفية منسوبة للبنك المركزي التركي تحدّثت عن مئات المليارات من الدولارات من الذهب المحتفظ به خارج النظام، ما يوضح هامش التعبئة الممكن حين تتوفر قنوات ادخار وحسابات ذهبية وبورصات نقدية فعّالة، ويضيء الطريق لدولٍ مثل السودان لنقل المعدن من الظل إلى الضوء. 

وفي الإمارات، بُنيت منظومة متكاملة حول تجارة الذهب التقليدية والحديثة، من بورصة العقود إلى توكنة الذهب وربطه بسلاسل توريد موثقة عبر منصات تجارة موثوقة. هذه البيئة التنظيمية والتجارية تقدم نموذجًا لربط المعدن الأصفر بالتمويل الرقمي، دون التفريط بمعايير الامتثال والتتبع، وهو درسٌ مهم عندما يفكر السودان في «جنيه ذهبي رقمي»، أو منصات ذهب رقمية داخلية. 

انطلاقًا من هذه الدروس، يمكن هندسة مسارٍ سوداني ذكي على ثلاث طبقات متكاملة. الأولى تأسيس «سوق ذهب سوداني» للتسعير الفوري بنظام تسليم فوري T+0 ومقاصة مركزية، مع إلزامية وسمٍ واعتمادٍ للمشغولات والسبائك لقطع الطريق على الذهب مُجهول المصدر وربط المنجم بالمنضدة. الثانية إطلاق «سندات ادخار ذهبية سيادية» مقومة بالجنيه أو بالدولار، تُسعّر على مؤشر سعر الأونصة وتدفع فائدة رمزية، لتمنح المواطن أداة ادخار سائلة ومُنظمة على غرار الهند، وتمنح الخزانة مرونة تمويلية. الثالثة تأسيس «صندوق صادر الذهب» بوحدات استثمارية صغيرة مفتوحة للأفراد، يشتري جزءًا من الإنتاج للتصدير التجاري الملتزم، ويوزع أرباحًا دورية على الشركاء المواطنين، بدل ترك العائد يتبدد في هوامش التهريب وسلاسل غير رسمية.

هذه البنية الحديثة يمكن أن تتوسع إلى «جنيه رقمي مدعوم بالذهب» يُصدره البنك المركزي، ويُتداول عبر المصارف ومحافظ الهاتف، مع سقوف ملكية يومية واشتراطات اعرف عميلك ومكافحة غسل الأموال، ما يجعل الذهب وسيطًا ادخاريًا وتبادليًا بلا تعقيد حمل السبائك. عندها يصبح المواطن قادرًا على شراء جزءٍ من أونصة، وبيعها، والمشاركة في صندوق الصادر، والاكتتاب في حصص شركات التعدين الوطنية، ضمن منظومة تضمن الشفافية والحوكمة، وتُحسّن مركز الاحتياطي الأجنبي، وتُقلص فجوة السوق الموازية.

في النهاية، التحليل الفني يخبرنا أن اتجاه الذهب العالمي صاعد ما دامت الفوائد في مسار هبوطي والمخاطر الجيوسياسية عالية، لكن التحليل المؤسسي هو ما يحدد إن كان المواطن السوداني سيبقى مجرد مشاهد لخط بياني على شاشة، أم سيصبح شريكًا في الثروة التي تخرج من أرضه. تجارب غانا والهند وتركيا والإمارات تُظهر أن الطريق ليس نظريًا بل عملي ومجرّب، وأن الربح الأكبر ليس في سعر الأونصة وحده، بل في بناء قناةٍ عادلة وشفافة، تربط المنجم بمدخرات الناس وحياتهم اليومية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *