محمد كمير
خبير اقتصادي
• إصدار بنك السودان لمنشور سياسات شراء وتصدير الذهب الحر وذهب شركات مخلفات التعدين في سبتمبر 2025 يأتي في سياق محاولة تنظيم ملف الذهب الذي ظل لعقود يمثل المورد الأول للنقد الأجنبي. هذه اللوائح تعكس رغبة واضحة في إحكام السيطرة على الصادرات ومنع الفوضى والتسرب، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات عميقة حول مدى تحفيزها أو تعطيلها للقطاع الخاص والمصدرين. من الإيجابيات المباشرة أن حصر عمليات شراء وتصدير الذهب في بنك السودان المركزي يضع حداً لممارسات التهريب الواسعة التي حُرم بسببها الاقتصاد السوداني من مليارات الدولارات، كما أنه يمنح البنك المركزي فرصة لزيادة احتياطياته من النقد الأجنبي وتحقيق شفافية أكبر في تدفقات الذهب. كذلك، فإن ربط عمليات الشراء بالأسعار العالمية والسوق المحلي يقلل من فجوة الأسعار التي كانت تشجع على التهريب، بينما يفتح الباب لتقليل المضاربات.
لكن في الجانب السلبي، فإن إقصاء المصدرين من عملية التصدير وقصرها حصرياً على بنك السودان المركزي يحد بشكل كبير من تنافسية السوق ويضعف الحوافز للمصدرين الذين كانوا يحققون أرباحاً عبر بناء شبكات خارجية، مما قد يؤدي إلى إحباط الاستثمارات الجديدة في مجال التعدين الأهلي والمخلفات. هذه السياسة قد تعيدنا إلى حقبة الاحتكار الحكومي التي كثيراً ما أنتجت سوقاً موازية أقوى من السوق الرسمي، فالمصدر الذي يُحرم من مرونة التصدير قد يلجأ للطرق غير المشروعة مجدداً. كما أن فرض ضوابط معقدة على الذهب بغرض التصنيع والإعادة، مثل الالتزام بالترميز الثماني والشيكات المصرفية والالتزامات الزمنية القصيرة لإعادة الذهب، قد يُثقل كاهل الشركات الصغيرة ويجعل النشاط محفوفاً بالمخاطر الإجرائية، خصوصاً في بيئة تعاني أصلاً من ضعف البنية المؤسسية.
عند المقارنة بتجارب دول شبيهة، مثل غانا وتنزانيا، نجد أن هذه الدول سعت لضبط الذهب عبر فرض نسب محددة تشتريها الدولة مباشرة، لكنها أبقت مساحة للمصدرين للعمل بشروط واضحة مع إلزامهم بإعادة حصائل الصادر عبر النظام المصرفي. في غانا مثلاً، الدولة تشتري جزءاً من الذهب لتعزيز الاحتياطي، لكنها تسمح للشركات بتصدير النسبة المتبقية بشرط توريد العائدات بالدولار. هذه السياسات المتوازنة شجعت على استمرارية التدفق الرسمي للذهب وفي نفس الوقت منحت القطاع الخاص الحافز للبقاء نشطاً. بالمقابل، احتكار بنك السودان للتصدير بالكامل قد يضعف القدرة على المنافسة العالمية ويجعل السوق السوداني أقل جاذبية للمستثمرين الإقليميين والدوليين.
الخروج من هذا المأزق يتطلب التفكير خارج الصندوق، بحيث يُصاغ نظام هجين يجمع بين السيطرة الحكومية وضمان حرية مدروسة للقطاع الخاص. يمكن مثلاً لبنك السودان أن يحتكر جزءاً من الصادرات لتأمين احتياطيات الدولة، مع السماح للمصدرين بتصدير نسبة معينة تحت إشراف مصرفي صارم وضوابط استرداد حصائل الصادر. كما يمكن التفكير في حوافز ضريبية وتشجيعية للمصدرين الملتزمين، مع بناء نظام إلكتروني شفاف يتيح متابعة كل جرام ذهب من مناطق الإنتاج وحتى التصدير.
من بين الأفكار الذكية التي يمكن أن تُطرح أن يتم إصدار عملة ذهبية رقمية أو ورقية مرتبطة مباشرة بالرصيد الفعلي من الذهب المصدر. هذه العملة يمكن أن تكون أداة لتشجيع المصدرين، بحيث يحصل المصدر عند تسليم ذهب للتصدير على رصيد ذهبي بالعملة المحلية أو بعملة مستقرة، يمكن تداوله داخلياً أو استخدامه في عمليات استيراد محددة. مثل هذه الخطوة ستعزز الثقة في الجنيه السوداني إذا ارتبط بجزء من احتياطي الذهب، وتفتح الباب أمام اقتصاد موازٍ أكثر استقراراً.
كما يمكن إنشاء صندوق سيادي أو صندوق تمويل ذهبي للصادرات، يشارك فيه المصدرون بنسبة من ذهبهم، بينما تضمن الدولة إدارة الصندوق واستثماره. هذا الصندوق يمكن أن يعمل على تمويل الصادرات الأخرى غير الذهبية عبر عوائد الذهب، مما يحول المورد إلى أداة لتمويل التنويع الاقتصادي بدلاً من الاعتماد عليه وحده. المصدر في هذه الحالة يصبح شريكاً في عوائد أكبر، بدلاً من مجرد بائع للذهب.
إلى جانب ذلك، يمكن تبني آلية مقايضة الذهب بالسلع الاستراتيجية، بحيث يتم الاتفاق مع شركاء إقليميين أو دوليين على أن يُستخدم جزء من صادرات الذهب لتأمين القمح أو الوقود أو مدخلات الإنتاج الصناعي مباشرة، مما يقلل الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي ويضمن استقراراً أكبر في السوق المحلي.
فكرة أخرى هي إدراج شركات التعدين الأهلي وحتى الشركات الحكومية العاملة في قطاع الذهب في سوق الخرطوم للأوراق المالية، وهو ما سيتيح فتح باب الاستثمار العام أمام الجمهور ويزيد من فرص التمويل لتلك الشركات. هذا الإدراج سيجعل المواطنين شركاء مباشرين في قطاع الذهب، كما سيزيد من الشفافية والمساءلة بحكم الرقابة المرتبطة بالأسواق المالية، وسيجذب استثمارات محلية وخارجية جديدة، الأمر الذي يخلق دورة اقتصادية أكثر استدامة.
إعادة صياغة العلاقة مع شركات التعدين الأهلي يظل ضرورياً أيضاً، حيث يمكن تحويلها تدريجياً إلى شركات مساهمة صغيرة مرتبطة ببنك السودان أو بالصندوق الذهبي المقترح. هذه الخطوة ستقلل من الفوضى، وتفتح الباب لإدماج آلاف المعدنين التقليديين في الاقتصاد الرسمي عبر أسهم أو حصص في شركات مصفاة أو تسويق الذهب، وهو ما يعزز كفاءة الإنتاج ويزيد من العوائد الرسمية.
بهذا، يصبح واضحاً أن لوائح بنك السودان الأخيرة يمكن أن تكون خطوة في الاتجاه الصحيح إذا ما أُضيفت إليها رؤية اقتصادية جديدة، تتجاوز مجرد السيطرة على التصدير، إلى بناء منظومة شاملة تستفيد من الذهب كأصل استراتيجي. هذه المنظومة يجب أن تقوم على عملة ذهبية تحفز الثقة في الاقتصاد، وصندوق سيادي يربط المصدرين بالاستثمار في المستقبل، وإدراج شركات التعدين في السوق المالي لتوسيع قاعدة التمويل والمشاركة الشعبية، وسياسات متوازنة تضمن حرية مدروسة للقطاع الخاص مع رقابة صارمة على الحصائل. عندها فقط يمكن أن يتحول الذهب من مورد سريع التبخر إلى قاعدة صلبة لإعادة بناء الاقتصاد السوداني.
شارك المقال
