البراء بشير

البراء بشير

كاتب صحفي

• في صبيحة الثاني والعشرين من مايو قبل أربع سنوات، استيقظت فَزِعاً مستغرباً المكان الذي نمت فيه، فقد غلبني النعاس وأنا على أريكة أراقب أمي التي كانت طريحة الفراش، وقد أحاطت بها المحاليل الوريدية من كل اتجاه، وكانت الأيام التي تسبق ذلك اليوم أياماً عصيبة، ترددنا فيها على الطبيب عدة مرات، وكانت آخر مرة قبل يومين من ذلك التاريخ، وقد أوصاني الطبيب أن نعاوده مساء هذا اليوم المشار إليه، فقد كانت أمي- رحمها الله – تعاني في تلك الأيام أشد المعاناة، وتصارع المرض الذي أنهكتها أعراضه. 

نهضتُ من على الأريكة وأنا أترنح من شدة التعب، وسرت متوجهاً نحو أمي لأسألها عن حالها كما أفعل كل يوم، ووجدتها فاقدة للوعي جزئياً، علمت من خلال معرفتي الطفيفة في ذلك الوقت الذي كنت فيه حدثاً مبتدئاً في مجال الطب، أن الحالة غير مستقرة، وأخبرت من كان معي من الأهل أن علينا أن نتوجه فوراً إلى عيادة الطبيب، فجهزنا السيارة وتوجهنا من فورنا قبل مواعيد الطبيب المتفق عليها، ثم قام هو بتوجيهنا إلى أحد المستشفيات بمدينة بحري. 

في تلك الأيام كان فايروس كوفيد-19 في ذروته، وكل حالة مَرضية حسب نظرة العاملين في المجال الصحي إما مصابة بالفايروس أو معرضة للإصابة به، فكان دخولنا لمبنى الطوارئ عَسِراً، وعلمت بعد دخولنا أن والدتي أصيبت بسكتة قلبية قبل وصولنا إلى مبنى الطوارئ؛ مما اضطرنا إلى التوجه فوراً إلى غرفة الإنعاش وبدء عملية الإنعاش القلبي الرئوي؛ وهو علاج طارئ -فعال أحياناً- يتم إجراؤه عند توقف نبضات القلب أو التنفس؛ وآليته هي ضغطات قوية متتالية وسريعة على الصدر، تؤدي إلى تنشيط القلب وتدفق الدم المؤكسج إلى الدماغ وبقية الأعضاء الحيوية.

بدأ الفريق الطبي إجراء عملية الإنعاش، وكنت حينها أحاول إنعاش دماغي مما أصابه جراء هذا الارتجاج المعنوي، وينطلق بصري فلا أرى حولي إلا المعاطف البيضاء، ولا أسمع إلا همساتٍ بتلك الألفاظ الطبية التي أعرفها تمام المعرفة، ولكن من هول الصدمة لا يستطيع دماغي ترجمة الصور التي تراها عيناي، ناهيك عما تسمعه أذناي. استمرت عملية الإنعاش القلبي لمدة أربعين دقيقة، وفي الساعة الواحدة وعشرين دقيقة فارقت أمي الحياة. لم تُجْدِ كل هذه المحاولات، فقد أتى أمر الله الذي لا راد له، وقضى سبحانه بأن تقبض روحها في ذلك الزمان، وما زلت إلى اليوم أعيش آثار تلك الحادثة؛ فإن فقدان الأم جرح لا يندمل، بل هو تحور في الحياة تبعاته تغيرات عديدة في شخصية الفرد وعموم حياته؛ وما بعده لا يشبه ما قبله بأي شكل كان، فيا لها من عتبة فارقة، ويمكنني القول أنها أقسى تجربة إنسانية على الإطلاق.

رحمك الله يا أمي، وغفر لك، وأسكنك فسيح جناته، وألهمنا الصبر على فراقك، وجمعنا بك في أعالي الجنان.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *