د. عصام صالح: اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) من الاضطرابات النفسية الشائعة التي تصيب الأفراد

27
د. عصام صالح

• يعد اضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder – PTSD) من الاضطرابات النفسية الشائعة التي تصيب الأفراد بعد تعرضهم لحوادث صادمة مثل الحروب، الاعتداءات الجسدية أو الجنسية، الكوارث الطبيعية، أو الحوادث المفجعة. يؤثر هذا الاضطراب على الصحة النفسية والجسدية للمصابين به، وقد يؤثر على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية.

في هذا المقال، سنتناول PTSD بشكل مفصل من حيث أسبابه، أعراضه، آلياته العصبية، تشخيصه، وطرق العلاج المختلفة.

الفصل الأول: ماهية اضطراب ما بعد الصدمة

تعريف اضطراب ما بعد الصدمة:

اضطراب ما بعد الصدمة هو حالة نفسية تحدث نتيجة التعرض لحدث صادم يُشعر الفرد بالخطر الشديد أو العجز. يتسبب هذا الحدث في استجابة نفسية مستمرة، تشمل إعادة التجربة، التجنب، والتغيرات السلبية في التفكير والمزاج.

التصنيف العلمي:

يُصنَّف PTSD ضمن اضطرابات القلق في الطبعات السابقة من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» (DSM)، ولكن في النسخة الخامسة (DSM-5) أصبح يُصنف ضمن فئة جديدة تُسمى «الاضطرابات المرتبطة بالصدمات والضغوط النفسية»

الفصل الثاني: أسباب اضطراب ما بعد الصدمة

1. التعرض للصدمات النفسية

يمكن أن يحدث PTSD نتيجة لمجموعة متنوعة من التجارب الصادمة، مثل:

الحروب والنزاعات المسلحة: تؤثر على الجنود والمدنيين على حد سواء، حيث يتعرضون للقتل، الدمار، والفقدان.

الاعتداء الجسدي أو الجنسي: سواء في مرحلة الطفولة أو البلوغ، وهذا يشمل التحرش والعنف المنزلي.

الكوارث الطبيعية: مثل الزلازل، الفيضانات، والانفجارات البركانية.

الحوادث العنيفة: مثل حوادث السير الخطيرة أو الهجمات الإرهابية.

2. العوامل البيولوجية والنفسية

تشير الأبحاث إلى أن بعض الأفراد يكونون أكثر عرضة للإصابة بـ PTSD بسبب عوامل جينية وبيولوجية مثل:

ارتفاع مستويات الكورتيزول والأدرينالين بعد الصدمة.

تغيرات في حجم ووظيفة اللوزة الدماغية والحُصين (Hippocampus).

الاستعداد الوراثي، حيث يمكن أن يكون الاضطراب وراثياً في العائلات التي لديها تاريخ من القلق أو الاكتئاب.

الفصل الثالث: أعراض اضطراب ما بعد الصدمة

تظهر أعراض PTSD عادةً بعد شهر على الأقل من الحدث الصادم، ولكنها قد تستغرق سنوات لتظهر لدى بعض الأشخاص. تنقسم الأعراض إلى أربع مجموعات رئيسية:

1. إعادة التجربة (Re-experiencing)

استرجاع الأحداث الصادمة في صورة كوابيس أو ذكريات متكررة.

مشاعر قوية من الضيق النفسي عند التعرُّض لمحفزات تذكّر بالحدث الصادم.

استجابات جسدية مثل التعرّق أو تسارع ضربات القلب عند التفكير في الحدث.

2. التجنب (Avoidance)

تجنُّب الأماكن أو الأشخاص المرتبطين بالحدث الصادم.

فقدان الاهتمام بالنشاطات التي كانت ممتعة من قبل.

الانعزال الاجتماعي والتجنب العاطفي.

3. التغيرات السلبية في التفكير والمزاج

مشاعر الذنب أو العار.

نظرة سلبية للعالم والشعور باليأس.

صعوبة في تذكُّر تفاصيل الحدث الصادم.

4. التغيرات في الاستثارة والاستجابة العاطفية

الغضب والانفعالات العنيفة.

الشعور بالتوتر الدائم واليقظة المفرطة (Hypervigilance).

صعوبة في التركيز والنوم.

الفصل الرابع: تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة

1. معايير التشخيص حسب DSM-5

يشترط التشخيص أن تستمر الأعراض لمدة تزيد عن شهر، وأن تؤثر على الأداء اليومي للفرد. يعتمد التشخيص على مقابلات إكلينيكية واختبارات نفسية مثل:

مقياس تأثير الأحداث (Impact of Event Scale – IES).

مقياس اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD Checklist – PCL).

2. الفرق بين PTSD واضطرابات أخرى

قد يتم الخلط بين PTSD واضطرابات مثل الاكتئاب أو القلق العام، لذلك يحتاج الطبيب إلى تقييم دقيق للتاريخ المرضي للمريض.

الفصل الخامس: طرق علاج اضطراب ما بعد الصدمة

1. العلاج النفسي

أ. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

يُستخدم لتغيير أنماط التفكير السلبية المرتبطة بالصدمة.

يشمل «إعادة الهيكلة الإدراكية» و»التعرض التدريجي للمحفزات المرتبطة بالصدمة».

ب. العلاج بالتعرُّض المطوّل (Prolonged Exposure Therapy – PE)

يساعد المريض على مواجهة الذكريات الصادمة بطريقة مُنَظّمة لتقليل تأثيرها العاطفي.

ج. العلاج بحركة العين وإعادة المعالجة (EMDR)

يتضمن تحريك العين بطريقة معينة أثناء استرجاع الذكريات المؤلمة، مما يساعد في إعادة معالجة الصدمة.

2. العلاج الدوائي

مضادات الاكتئاب (SSRIs): مثل فلوكسيتين (Fluoxetine) وسيرترالين (Sertraline).

مضادات القلق: مثل البنزوديازيبينات، ولكن تُستخدم بحذر بسبب خطر الإدمان.

مثبطات مستقبلات ألفا-1: مثل «برازوسين» لتقليل الكوابيس.

الفصل السادس: التأقلم والدعم الاجتماعي

1. أهمية الدعم العائلي والاجتماعي

يُساهم في تحسين الحالة النفسية وتقليل العزلة.

يُمكن للأصدقاء والعائلة توفير بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر.

2. التمارين والاسترخاء

تُساهم الأنشطة مثل اليوغا والتأمل في تقليل التوتر وتحسين الصحة النفسية.

3. دور الجمعيات والمؤسسات النفسية

تقدم منظمات مثل «أطباء بلا حدود» و»الصليب الأحمر» برامج دعم لضحايا الصدمات النفسية، خاصة في مناطق النزاعات والحروب.

دور الحكومة السودانية و الاسر في علاج مرضى إضطراب ما بعد الصدمة:

تُعدّ الحروب والنزاعات المسلحة من أبرز العوامل التي تؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بين الأفراد، خاصة في المجتمعات التي تعاني من صراعات مستمرة مثل السودان. يواجه المصابون بهذا الاضطراب تحديات نفسية واجتماعية كبيرة تتطلب دعماً فعّالاً من الحكومة والمجتمع. في هذا السياق، سنستعرض دور الحكومة السودانية والعائلات في تقديم الدعم للمصابين باضطراب ما بعد الصدمة أثناء الحرب وبعدها.

دور الحكومة السودانية في دعم المصابين باضطراب ما بعد الصدمة:

1. توفير الخدمات الصحية النفسية:

المراكز المتخصصة: تسعى الحكومة إلى إنشاء مراكز متخصصة في الصحة النفسية لتقديم الدعم والعلاج للمصابين. ومع ذلك، تشير التقارير إلى نقص حاد في هذه المراكز، خاصة في المناطق الريفية والنائية.

تدريب الكوادر الطبية: يُعتبر تدريب الأطباء والممرضين على التعامل مع حالات PTSD أمراً ضرورياً. إلا أن هناك تقارير تشير إلى قلة عدد الأخصائيين النفسيين المؤهلين في البلاد، مما يحد من قدرة النظام الصحي على تقديم الرعاية اللازمة.

2. التعاون مع المنظمات الدولية:

الشراكات الدولية: تعمل الحكومة بالتعاون مع منظمات مثل «أطباء بلا حدود» و»الصليب الأحمر» لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين. هذه الشراكات تهدف إلى سد الفجوات في الخدمات المحلية وتقديم الرعاية في المناطق المتأثرة بالنزاع.

3. التوعية والتثقيف:

حملات التوعية: تنظم الحكومة حملات لزيادة الوعي حول اضطراب ما بعد الصدمة وأهمية العلاج المبكر. هذه الحملات تهدف إلى تقليل الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسية وتشجيع المصابين على طلب المساعدة.

دور العائلات السودانية في دعم المصابين باضطراب ما بعد الصدمة:

1. الدعم العاطفي والاجتماعي:

الاستماع والتفهم: يُعتبر تقديم بيئة داعمة والاستماع للمصابين دون حكم أو انتقاد من أهم أشكال الدعم. هذا يساعد المصابين على التعبير عن مشاعرهم والتخفيف من حدة التوتر والقلق.

تشجيع المشاركة الاجتماعية: دعم المصابين للمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والعائلية يمكن أن يساهم في تحسين حالتهم النفسية وتقليل العزلة.

2. المساعدة في الوصول إلى الخدمات العلاجية:

البحث عن العلاج المناسب: تقوم العائلات بمساعدة المصابين في البحث عن مراكز العلاج المناسبة والتنسيق مع الجهات المعنية لتلقي الرعاية اللازمة.

المتابعة المستمرة: متابعة الجلسات العلاجية والتأكد من التزام المصابين بخطط العلاج المقررة، بالإضافة إلى تقديم الدعم المستمر خلال فترة التعافي.

3. التثقيف حول الاضطراب:

فهم طبيعة الاضطراب: تسعى العائلات إلى زيادة معرفتها باضطراب ما بعد الصدمة من خلال القراءة وحضور ورش العمل، مما يساعدها على تقديم الدعم المناسب والتعامل بفعالية مع التحديات المرتبطة بالاضطراب.

التحديات التي تواجه الدعم الحكومي والعائلي:

1. نقص الموارد:

التمويل المحدود: تعاني الحكومة من محدودية الموارد المالية، مما يؤثر على قدرتها على إنشاء مراكز متخصصة وتدريب الكوادر الطبية.

البنية التحتية الضعيفة: يؤدي تدهور البنية التحتية، خاصة في المناطق المتأثرة بالنزاع، إلى صعوبة تقديم الخدمات الصحية النفسية بشكل فعّال.

2. الوصمة الاجتماعية:

المفاهيم الخاطئة: تسود بعض المفاهيم الخاطئة حول الاضطرابات النفسية، مما يجعل المصابين يترددون في طلب المساعدة خوفاً من التمييز أو الانتقاد.

قلة الوعي: يؤدي نقص الوعي حول اضطراب ما بعد الصدمة إلى تقليل فرص التشخيص المبكر والعلاج المناسب.

3. استمرار النزاعات:

التأثير المستمر للصراع: يؤدي استمرار النزاعات المسلحة إلى زيادة عدد المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، مما يضع ضغطاً إضافياً على الموارد المتاحة ويزيد من التحديات أمام تقديم الدعم اللازم.

الاستنتاج:

يُعتبر دعم المصابين باضطراب ما بعد الصدمة في السودان مسؤولية مشتركة بين الحكومة والعائلات. ورغم الجهود المبذولة، فإن التحديات المتمثلة في نقص الموارد والوصمة الاجتماعية واستمرار النزاعات تتطلب تعزيز التعاون بين جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك المنظمات الدولية والمجتمع المدني، لضمان تقديم الرعاية والدعم اللازمين للمصابين وتحسين جودة حياتهم.

الخاتمة

اضطراب ما بعد الصدمة هو اضطراب نفسي شائع لكنه قابل للعلاج. من الضروري زيادة الوعي حوله، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمصابين به، خاصة في البيئات التي تتعرض لمستويات عالية من الصدمات، مثل مناطق الحروب والكوارث الطبيعية.

المراجع

American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5).

Bisson, J. I., Cosgrove, S., Lewis, C., & Roberts, N. P. (2015). Post-traumatic stress disorder. The BMJ.

Friedman, M. J., Resick, P. A., & Keane, T. M. (2007). Handbook of PTSD: Science and Practice.

National Institute of Mental Health. (2020). Post-Traumatic Stress Disorder. Retrieved from www.nimh.nih.gov

– الآثار النفسية للصراع في السودان: بين الصدمة والاحتياجات الإنسانية.

– اضطرابات ومتاعب نفسية: الحرب تضع السودانيين تحت الصدمة.

– مصابو حرب السودان: حكايات مع الألم وغياب الرعاية الصحية.

– حرب على الإنسان.

 – اضطراب ما بعد الصدمة: كيف تستطيع مساعدة أحد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *