
معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• يصادف الأول من مايو كل عام يوم «عيد العمال العالمي».
فالتحية والتجلة فيه لعمال السودان الغبش الكادحين.
كلات المواني .. الغبش التعاني .. بحارة السفن .. حشاشة القِصون .. لقاطة القطن .. الجالب الحُبال الفِطن الفرن .. الشغلانتو نار .. والجو كيف سخن.
كل هؤلاء الذين رمز بهم الراحل الإنسان حميد وغيرهم الكثير.
التحيه لكل من يبذل جهداً بحثاً عن رزق حلال.
التحية والمحبة والأشواق لأبي تاج السر محمد خلف الله «الرباطابي» عرّاب كهرباء الديزل في سكك حديد السودان «عليه الرحمة والرضوان».
في عيد العمال لا أملك سوى أن أنحني احتراماً لأولئك الذين ترتّبت على أكتافهم الحضارات وانبنت المدن وسارت القطارات.
لا أملك سوى أن أحيي عمال السودان «الغبش» أولئك الذين لم تُسجّل أسماؤهم في دفاتر النياشين ولكن حفرت سواعدهم أخاديد الإنجاز في تراب الوطن.
في هذا اليوم يزداد فخري وحنيني إلى والدي، الرجل الذي عرّفته الورش والمرمات، الفلنكات والمسامير، المفاتيح والصنفورات، قبل أن يعرفه كرسي الإدارة أو بزة المهندسين.
رجلٌ كان «يقرأ الفلنكة» كما نقرأ القصيدة، ويفهم وجع القطار قبل أن يئن الحديد.
وكأنّ الشاعر حسام قنديل حين قال:
«أنا أصلاً أبوي زول سكة حديد»
«في السكة عديييل، دغري وموزون»
كان يكتب عن والدي وعن نبضهِ «سكك حديد السودان».
عن الرجل الذي حمل «صنفور الريد» في قلبه في الورشه، المكتب وحتى البيت درسنا الريد عند ست الريد، ودلانا على مرسى الأفراح، فكان شاعراً وحكيماً قبل أن يكون فنياً مهندساً، ومن قبلها والداً مربياً وإنساناً.
فهندس كل الريد جوانا وعلق «تابلت» طيبتهُ الفينا.
أبي…
كان عاشقاً في هيئة عامل، رجلٌ كان يؤمن أن للحديد روحاً، وللمسمار صوتاً ، وأن القطارات ليست مجرد آلات بل هي رسائل حُبٍ تمضي من قريةٍ إلى قرية، ومن قلبٍ إلى قلب.
في عيد العمال أراه في كل عاملٍ ينهض فجراَ يغسل وجهه بالماء البارد ويرتدي البساطة والعزم.
أراه في كل يدٍ تتلطخ بالشحم والزيت لكنها تظل أنظف من كل يدٍ بيضاء لا تبني ولا تعمل…!
أراه في كل من يسير «دغري وموزون» يفتح صنفور الريد ويقفل باب الكسل والتخاذل.
يا أبي…
علمتنا أن العمل صلاة، وأن الورشة محراب، وأن السكة وطن يمتد من «أبو زبد» إلى «كسلا»، من «الجزيرة» إلى «نيالا»، ومن «مسمار الى الرهد».
وعلمتنا إن الوطن هو بريق الأمل والمحبة في عيون الفقراء والمتعبين من أطفال «السندات» و»المحطات».
وفي عيون «الشافع أب ضلعاً برة
إيدو مدممي جاري العود».
في عيد العمال، نرفع اسمك لا لكونك أبي بل لكونك منارة من نور.
رجلٌ لم يعرف الكذب في وردية، ولا الخيانة في قطعة غيار، ولا الغياب عن موقعه حتى في أشد لحظات الضرورة، حتى أتته المنية وقد غادر الورش المركزية في عطبرة قبيل رحيله بساعات في ذلك اليوم الحزين في أتم العافية، ولكنه الرحيل المحتوم.
غادر الفانية ويداهُ مخضبتان بالشحوم، وعطرهما الزيت والديزل والكثير من الحنين.
رحل عفيفاً طاهر اليد واللسان، فلم يخلف وراءه ديناً أو مظلمة…!
بل كانت لديه أموال مدفوعة لمواد عند تجار لم يستلمها…!
في حالة نادرة أن يكون التاجر هو المدين وليس الدائن.
رجلٌ أورثنا أن الطريق إلى الوطن يبدأ من حبة عرق، ومن مفتاح سكة، ومن فلنكة مصانة بالحُبّ والضمير.
أبي…
سلامٌ على روحك في عليين.
أسأل الله أن يجعل الفردوس الأعلى مقامك في جنات النعيم.
وسلامٌ على عمّال السودان، الذين ما توانوا لحظة عن حمل الوطن على أكتافهم المتعبة وقلوبهم المضيئة.
ولتبقَى سكك حديد السودان حلم سودان المستقبل.
ولنبقَى نحن سائرين عليها.
«دُغري وموزون»
مودتي والسلام
معتصم تاج السر «ود سكة حديد».
شارك المقال