

الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• في زاوية مظلمة من مخيم (زمزم) للاجئين، حيث تُختزل مأساة إنسان بكاملها في نظرة طفلة صغيرة، تقف تلك البنت بملابسها المُهترئة، ودموعها التي تسيل في صمت كأنها أنهار من الأنين. كل دمعة على خدّها تحكي قصةً لا تُروى بالكلمات، بل بالوجع الذي يفوق عمرها بسنوات. عيناها الواسعتان، اللتان كان من المفترض أن تلمعا ببراءة الطفولة، تحملان الآن سؤالاً مريراً: (لماذا؟ وبأي ذنب).
قبل ساعات فقط من هذه اللحظة، شنّ أوباش الدعم السريع هجوماً غادراً على المخيم، حيث لا أسلحة هنا إلا بطون فتك بها السغب، ولا دروع إلا أكياس الخيش التي تُسمّى خياماً. المعسكر، الذي كان يُفترض أن يكون ملاذاً للأبرياء، تحوّل إلى ساحة رعب تحت وطأة الرصاص واللهب. الأطفال الذين كانوا يلعبون بين الخيام باتوا الآن إما تحت الأنقاض، أو يجرّون جراحهم كما تفعل هذه الطفلة، التي ربما فقدت أهلها أو بيتها أو كليهما في غمضة عين.
في الصورة، نرى كيف تتدفّق الدموع على وجنتيها المُغطيتين بغبار القنابل، بينما تمسك بعينيها أطراف الأفق، أو ربما تنتظر الاختباء في تلابيب ثوب أمها، أو لتتذكر لعبة كانت تُمسك بها حين بدأ الرصاص يُنهي أحلامها. الخوف في عينيها ليس خوف طفولة من الظلام، بل هو رعب وجودي، كيف يُمكن للعالم أن يتركها وحيدة في مواجهة هذه الوحشية؟
الضوء الخافت الذي يسلّط على وجهها في الصورة يُبرز تناقضاً صارخاً: جمال الروح في مواجهة قبح الحرب. حتى الدموع على خدّها تبدو كاللآلئ، لكنها لآلئ من النكد، لا من الامتثال.
هذه الطفلة ليست مجرد رقم في تقارير الضحايا، بل هي صرخة مدوّية تُذكّرنا بأن الإنسانية تُغتال كل يوم في صمت. دماؤها ودموعها تُحمّلنا جميعاً مسؤولية التاريخ، إلى المجتمع الدولي الذي أسأمنا بإنسانيته المنتقاة… أين ضميركم من الأطفال الذين يُقتلون تحت شعارات البغض؟ وإلى الإعلام، توقّفوا عن التعامل مع هذه المآسي كأخبار عابرة، فهذه الطفلة قد تكون ابنة أيٍّ منا.
إلى كل إنسان يقرأ هذا الكلام.. تذكّروا أن السكوت عن الظلم مشاركة فيه.
قد تجف دموع هذه الطفلة يوماً، لكن الأثر سيبقى. ربما سيكبر هذا الوجه ليُصبح رمزاً للقضية، أو ربما سينضم إلى قائمة الأسماء المنسية. لكننا هنا، أمام هذه الصورة، مُطالبون بأن لا ننسى. لأن في عينيها كل الأسئلة التي لا إجابة لها إلا بالعدالة.
هذه الطفلة ليست مجرّد صورة عابرة في شريط الأخبار، بل هي رمزٌ لكلّ طفلٍ وُلد تحت نيران الحرب، لكلّ عائلةٍ تشتّتت، لكلّ إنسانٍ أجبرته قسوة (الجنجويد) على أن يحمل أكثر مما يطيق. فدموعها ليست ضعفاً، بل هي شهادةٌ على قسوة العفاشة ومعهم عالم سمح لهذا الظلم أن يحدث… في عينيها نرى انعكاس كلّ المأساة التي لا تُقال، وفي صمتها نسمع صرخةً توقظ الضمائر: هل هذا ما نستحقّه؟ هل هكذا يجب أن تكون الطفولة؟
لأنّ كلّ دمعةٍ تسقط اليوم هي ندبةٌ في جسد الإنسانية، وكلّ طفلةٍ تبكي مثلها هي صرخةٌ في وجه العالم البائس.
(الطفل الذي يبكي اليوم بسبب الحرب، هو نفسه الذي سيقف غداً ليحاسب التاريخ).
فوجهها الصغير المُغبّش بالتراب والدماء يتحدّث بلغةٍ يفهمها كلّ إنسان، لغة الألم الذي لا يحتاج إلى تبيان. لنكن صوتاً لهذه الطفلة، ولأمثالها، قبل أن يُغلق الموت أفواههم إلى الأبد.
شارك المقال