دروس الحرب للسودانيين: احترام الصف والمساواة في الحقوق 

32
د. حاتم محمود عبدالرازق

حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

افتتاحية تمهيدية

• في زمن الحرب تتكشف المعادن الحقيقية للشعوب. فبينما تهتز الجغرافيا ويضيع المأوى، يبقى السلوك هو المرآة الأصدق لجوهر الإنسان. ومن بين الدروس التي أفرزتها تجربة السودانيين في المنافي، برز درس عظيم في بساطته وعميق في أثره: احترام الصف والمساواة في الحقوق – درس يبدو بسيطًا في مظهره، لكنه أساس في بناء المجتمع العادل والمنظم.

حينما اضطرت الحرب كثيرًا من السودانيين إلى مغادرة وطنهم نحو دول الجوار أو الإقليم أو حتى أبعد بلاد العالم، لم يحملوا معهم فقط حقائبهم القليلة، بل حملوا أيضًا أحلامهم، وذكرياتهم، وتقاليدهم التي نشأوا عليها.

ورغم قسوة الحرب وويلاتها، كانت هناك دروس ثمينة في انتظارهم، دروس ربما لم يتعلموها في وطنهم من قبل. لعل أبرزها قيمة احترام الصف والمساواة في الحقوق.

في معظم الدول التي قصدها السودانيون، اكتشفوا أن احترام الصف أو «الطابور» ليس مجرد مظهر من مظاهر النظام، بل هو ثقافة راسخة، تعبّر عن روح العدالة والمساواة. فالكل يقف في طابور منظم، سواء كان طبيبًا أو مزارعًا، مديرًا أو عاملًا بسيطًا، عسكريًا أو مدنيًا، رجلًا أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا. لا أحد يملك أولوية على الآخر إلا بوقت حضوره.

في السودان، للأسف، اعتاد بعض الناس تجاوز الصفوف، متوهمين أن مكانتهم أو معرفتهم أو علاقاتهم تمنحهم حق التقدّم. هذه الثقافة ولّدت فوضى في السلوك، وأضعفت روح العدالة، وأهدرت قيمة الوقت واحترام الآخرين.

لكن حينما خرج السوداني إلى العالم، أدرك أن احترام الصف هو انعكاس لقيم عظيمة: العدالة، والمساواة، واحترام الوقت، وحقوق الآخرين. فحتى في أبسط المواقف – كركوب الحافلات، أو شراء الخبز، أو دخول المرافق العامة – لا مجال للتجاوز ولا مكان للوساطة.

ولعل من أهم صور احترام الصف التي ينبغي أن نغرسها أيضًا، هي احترام أولوية الطريق أثناء القيادة. فمن المؤسف أن نرى بعض السائقين يتجاوزون الصفوف عند الإشارات الحمراء أو في طرق الازدحام، متجاهلين من سبقوهم في الوقوف، وكأن الطريق ملك لهم وحدهم.

هذا السلوك ليس مجرد مخالفة مرورية، بل هو مظهر من مظاهر الأنانية وانعدام الوعي المجتمعي. فاحترام الإشارة والصف في الطريق هو جزء من احترام النظام العام، ومن احترام الآخرين وحقهم في المرور الآمن والمنظم.

القيادة المنضبطة لا تعبّر فقط عن تهذيب السائق، بل عن نضج المجتمع بأكمله.

ومن المهم ألا نكتفي بالتنظير لهذه القيم، بل نغرسها عمليًا في الأجيال القادمة. يجب أن تصبح ثقافة احترام الصف والتزام الدور جزءًا من التربية الأساسية في المدارس ورياض الأطفال.

ينبغي أن تُصاغ هذه القيمة ضمن المناهج التعليمية والتربوية، وأن يتم تدريب الأطفال عليها يوميًا — عند الدخول إلى المدرسة، والوقوف في الطابور الصباحي، وركوب الحافلة، والدخول إلى الفصول والخروج منها.

لكن الأهم من ذلك، أن يتعلم الطفل ويفهم مغزى هذا السلوك: أن مراقبة الصف ومنع تجاوزه ليست مجرد طاعة شكلية، بل هي دفاع عن العدالة.

يجب أن يُعلَّم الطفل كيف يحافظ على حقه في الأولوية بطريقة حضارية دون أن يظلم غيره، وأن يدرك أن له حقوقًا كما للآخرين حقوق، فلا يجوز انتهاكها بل احترامها ومراقبتها.

بهذا الأسلوب العملي والتربوي، تتحول قيمة احترام الصف من مجرد سلوك عابر إلى منهج يومي للحياة، يؤسس لجيل يعرف النظام ويقدّر المساواة ويفهم العدالة.

ولا يكتمل هذا الوعي إلا حين ندرك أن احترام الصف ليس مجرد سلوك اجتماعي، بل قيمة دينية وإنسانية أصيلة.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». 

هذه القاعدة النبوية تؤسس لمنظومة أخلاقية تُلغي الأنانية، وتزرع في النفس حب الخير للآخرين.

فمن يحب لغيره ما يحب لنفسه، لا يمكن أن يتجاوز صفًا أو يستبيح حقًا، لأنه يدرك أن كل إنسان له نصيبه من العدل والاحترام.

وهكذا يتلاقى الدين مع القانون في توجيه السلوك نحو العدالة: فالقانون ينظم الحقوق، والدين يزكّي النفوس لتلتزم بها عن قناعة وحب، لا خوفًا من عقوبة.

لقد كانت الحرب نقمة لا شك في ذلك، لكنها حملت في طياتها دروسًا نافعة – رب ضارة نافعة. فقد أتاحت للسودانيين أن يروا عن قرب كيف تُبنى المجتمعات على النظام، وكيف يحترم الناس الوقت والحقوق، وكيف تُصان كرامة الإنسان بالممارسة اليومية، لا بالشعارات.

اليوم، ونحن نعيد التفكير في مستقبل وطننا، علينا أن نحمل معنا هذه الدروس ونحوّلها إلى سلوك وثقافة. فاحترام الصف ليس فقط وقوفًا منتظمًا، بل هو أساس العدالة الاجتماعية، ومفتاح لبناء وطن يسوده النظام، ويتساوى فيه الناس في الحقوق والخدمات، ويعلو فيه صوت العدل على صوت الفوضى والمحاباة.

فلنجعل من هذه المحنة بدايةً لنهضةٍ أخلاقية وسلوكية، ولتكن دروس الحرب شعلةً تضيء طريقنا نحو وطن جديد، أكثر عدلًا وتحضّرًا وإنسانية.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *