البراء بشير

البراء بشير

كاتب صحفي

• بُنيت الحياة على التعرّج والتشكّل اللذين يُعدان سمتين أساسيتين لها، وقد أدرك الحكماء ذلك من قديم الزمان حتى قالوا: (دوام الحال من المحال)، وإن الدنيا كما قال كعب بن زهير:

ما تدوم على حالٍ تكون بها 

كما تلون في أثوابها الغول

إن مراحل الحياة وتقلباتها لا يمكن أن تتساوى بأي شكل من الأشكال، فلكل مرحلة صفاتها الخاصة المميزة لها؛ ولأن التغيير وتبدل الحال سُنّة من السنن الكونية، فإنه يجب على الإنسان أن يكون متأهباً لتبدل الحال، قابلاً لتغيير نفسه لمجاراة ظروفه المحيطة. وفي حال سعى الإنسان لتحقيق هدف معين وفشل مرة أو مرات، فعليه أن يعِي أن الظروف المحيطة تتلون في كل محاولة، ولا تظل ثاوية كما هي، لذلك عليه أن يكون متهيئاً لاستعاضة نهج المحاولة الذي فشل بنهج جديد، وإلا سيكون أسيراً لما أسميه مجازاً (دائرة التجربة). وهي عبارة عن سلسلة من الأفعال اللازبة المتتالية، يكون آخرها نتيجةً حتمية لأولها والعكس صحيح. لذلك هي أفعال مكررة، يكون الفرد فيها بعيداً كل البعد عن العالم المحيط، فلا هو يصل إلى مراده- لأنها دائرة ليست بها نقطة نهاية- ولا هو يكتسب خبرة، وذلك لانعزاله عن العالم، وغرقه في دائرته هذه.

الفارق بين تطبيق الخبرة المكتسبة والعمل وفق نسق دائرة التجربة، أن الأخيرة يغيب عنها عامل التفكير والتحليل بعد المحاولة الأولى، فتصبح أفعالاً روتينية تدور في فلك مُتوَهم، يسميه صاحبه (شرف المحاولة).

لقد كنت حبيساً لدائرة التجربة لزمن طويل؛ ومؤكد أن ذلك يحدث من غير وعي، لذلك كنت أندم على نتائج القرارات الخاطئة، من دون أن أفكر في ما كان يجب أن أفعله لأجد نتيجة مغايرة؛ وكنت أدخل في دائرة التجربة مجدداً بلا تفكير ولا انتقاد موضوعي للتجربة السابقة الفاشلة؛ فإن المحاولة فيها تعدّ أهم من النتيجة، والسعي فيها يكون بلا فهم ولا تيقُّظ. تملكني اليأس مرة عقب محاولة فاشلة، وبدأت أفكر فيما أفعله، وبعد النظر والتمحيص توصلت إلى أنني كنت أعيد نفس الخطوات بنفس الأدوات، فقررت الخروج من هذه الدائرة، ومنذ ذلك الحين أصبحت أجد تفنيداً عقلانياً للخطأ، ومن ثم أعزم على اتخاذ القرار الصحيح في المرة المقبلة بتفكير أعمق، وتحليل أدق.

أعتقد أن موضوع دائرة التجربة ليس حكراً على التجارب الفردية، بل يشمل المجتمعات والدول التي تسعى إلى التطور ومواكبة ازدهار الحضارة المادية، ولكنها تعيد المحاولة بذات السبل القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، وبنهج عملي مكرر، فيكون الفشل مصيراً حتمياً في نهاية المطاف. 

لا يجب عليك أن تفشل مراراً وتكراراً لتتعلم، بل يمكنك الاطلاع على تجارب من سبقوك، فهو أمر بالغ الفائدة، فيه اقتداء بالنجاح، واتخاذ الأسباب المؤدية له، واتعاظ بالفشل وتجنب أسبابه، واختصار طريق طويل من المحاولة، ولكن يجب عليك مراعاة الظروف المحيطة. وهذا متاحٌ أيضاً للدول والمجتمعات، ويدخل في سياق فلسفة التاريخ، ومن هنا جاءت المقولة: (من درى أخبار من قبله أضاف أعماراً إلى عمره).

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *