(خلوا المجاديف تعوم)

58
محمد عبدالقادر

محمد عبدالقادر محمد أحمد

كاتب صحفي

• حضرت قبل فترة ندوة قانونية في إحدى العواصم، جلس على منصتها محامٍ سوداني رزين، حاصل على الدكتوراه، إلى جانب محامٍ عربي أصغر منه سنًا وخبرة. اكتفى المحامي السوداني بأن يقول اسمه وموضوع حديثه ثم جلس، بينما أخذ زميله يسرد بتفصيل مشوّق شهاداته وإنجازاته ومجالات عمله، حتى أسر القاعة كلها منذ اللحظة الأولى. كنت أعلم أن السوداني لو قدّم نفسه بذات الطريقة لما قورن أصلًا، لكنه أحجم. وبعد الندوة سألته مستغربًا: يا دكتور ياخي لماذا لم تعرّف بنفسك كما فعل الآخر؟ فأجابني بخجل أنه خاف أن يُقال عنه «شايف نفسو» فآثر الصمت على الاتهام بالغرور.

تلك اللحظة ليست طرفة عابرة، بل عنوان عريض لثقافة كاملة نحملها معنا حتى خارج حدود السودان، ثقافة تجعلنا نملك الكفاءة والمعرفة ثم نخجل من إعلانها، ونربط الثقة بالنفس بالغرور، فنقدّم أنفسنا للعالم كما لو كنا أقلّ مما نحن عليه، بينما الآخرون يفهمون أن إبراز الإنجاز احترام للجمهور وللذات معًا. فكيف نلوم من يتقدّم علينا ونحن ندفن كفاءاتنا بأيدينا، ونعتذر عن حقوقنا وكأنها صدقة!

غير أن هذا الدكتور لم يكن وحده المخطئ في صمته، فقد كان في الواقع محقًا حين خاف من ردّ فعل الجمهور، فنحن أبناء بيئة تربّينا فيها على أن نطأطئ الرؤوس حتى تلامس الأرض، تواضعًا مفرطًا لا يخلو من ملامح المسكنة، حتى صار الواحد منّا إذا انتصب قليلًا بدت قامته للآخرين تحديًا واستفزازًا.

 مجتمعنا السوداني يحب أن يرى الناس في الظل، فإذا تجرأ أحدهم على تقديم نفسه أو سرد إنجازاته، قلنا فورًا بسخريتنا المعهودة: «دا قايل نفسو منو». كأن الثقة بالنفس خطيئة، وكأن الاعتراف بالجهد تباهٍ مستفز. هذه الغيرة والحساسية الاجتماعية غير المعترف بها، هي التي تجعل مثل هذا الدكتور المحترم يتردد حتى في تقديم مسيرته المستحقة للناس، خوفًا من مجتمع بلغ في ثقافة «تكسير المجاديف» مبلغًا يجعلك تفضّل دفن مجاديفك قبل أن يكسروها لك.

الخروج من هذه الدائرة لا يعني أن نتحوّل إلى متغطرسين، ولا أن نفقد جوهر تواضعنا، بل أن نفهم الفارق بين التواضع الذي يجمّل صاحبه، وبين التقليل من النفس الذي يطفئه، وأن نعرف قيمتنا الحقيقية ونعلنها بوضوح، بأسلوب مهني يحترم الآخرين كما يحترم أنفسنا. 

هذه دعوة لي أولًا، ثم لكل سوداني وسودانية، بأن نتخفّف من تلك الصفات الموروثة، التي تحب أن تكسر المجاديف قبل أن تبحر، وأن نتحرّر من الحقد والتبخيس الذي يسري بيننا خلسة، فيقتل الطموح في مهده. وهي دعوة إيجابية لأن يقدّم كل واحد منا نفسه بجرأة وثقة، خاليًا من التكبر، ممتلئًا بالاستحقاق لما عمل من أجله فعلًا، دون أن يلتفت إلى أصوات التبخيس، أو يخجل من إنجازه.

فالأمم التي تنهض لا تنهض بكنوز صامتة، ولا بكفاءات مطأطئة الرؤوس، بل بأناس يعرفون قدرهم، ويُعرّفون به بلا خوف، فيحترمهم الآخرون بقدر ما احترموا أنفسهم. 

إمّا أن نبقى سجناء لعُقدنا الاجتماعية، وإما أن نكسر تلك القيود، فنصنع لأنفسنا مكانًا لا يُمنح صدقةً، ولا يُستعطى مجاملة، بل يُنتزع استحقاقًا وجهدًا وإيمانًا بالنفس.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *