خارطة 180 يوماً للعبور من وقفِ النار إلى تعافٍ مُبكّر وإعمارٍ شفاف

86
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

مقدّمة

حين نسأل: «متى يبدأ اليوم التالي للسودان؟» فنحن لا نبحث عن رنة ساعةٍ على الحائط، بل عن معايير قابلة للقياس تعلن بدء انتقالٍ حقيقي من الطوارئ إلى الحياة. اليوم التالي ليس حدثًا مفردًا يعقب صمت المدافع؛ إنّه مسارٌ مركّب تتشابك فيه ثلاثة شروط: أمانٌ ملموس تُثبته آلية وقف نار مستقلة، ومسارٌ سياسي موحّد الرعاية يُقلّل تشتّت الوسطاء وتضارب أجنداتهم، وتمويلٌ دولي ومحلي مشروط بالشفافية والنتائج لا بالوعود. بين هذه الحلقات يعمل إطار 3R (إغاثة → تعافٍ مبكّر → إعمار) ليحوّل المبادئ إلى أعمالٍ صغيرة–عالية الأثر تفوز بثقة المواطنين: إعادة تشغيل محطات المياه والكهرباء، فتح المدارس والعيادات تدريجيًا، تفعيل سلاسل إمداد الدواء والغذاء، وبرامج نقد مقابل عمل تُعيد الدخل والكرامة.

ومع أنّ الإعمار يوحِي بمشروعات إسمنت وحديد، إلا أنّ جوهره اجتماعي: بناء ثقةٍ جديدة بين الدولة والمجتمع، وردم فجوات المركز والأطراف، وإتاحة الفرص للشباب والنساء وروّاد الأعمال المحليين والشتات للمشاركة في التنفيذ والرقابة عبر بوابة مشتريات علنية ولوحات بيانات يفهمها الجميع. كما أنّ اليوم التالي لا يكتمل دون عدسة العدالة المناخية والمرونة: طرقٌ تصمد في مواسم المطر، شبكات صرفٍ تحمي من الفيضانات، وحلول طاقة موزّعة تقلّل هشاشة المدن والقرى. بهذا المعنى، لا ننتظر «الوقت المناسب» بقدر ما نُنشئه: خارطة 180 يومًا تُهيّئ الأرضية، وتُقاس أسبوعيًا بمؤشرات بسيطة—ساعات تغذية كهربائية مستقرة، قوافل تصل بلا انقطاع، مدارس فُتحت، ومرافق مياه عادت للعمل—لندرك أن اليوم التالي يبدأ حين نصنعه على الأرض، لا حين يُعلن على المنصّات.

اليوم التالي مسارٌ لا موعد

في الخبرة العالمية، لا يبدأ البناء الحقيقي بمجرد توقيع هدنة، بل حين تتكوّن ثلاث حلقات مترابطة: توقفٌ قابل للتحقّق للعنف في بؤر القتال، مسار سياسي موحّد الرعاية يقلل تضارب الأجندات، وتحوّلٌ تدريجي في تمويل المجتمع الدولي من الإغاثة البحتة إلى التعافي المبكر المشروط بالشفافية. عندها فقط يمكن لخطط الإعمار أن تنتقل من الورق إلى الأرض. لذلك، من الأكثر دقة أن نسأل: ما الشروط العملية لفتح البوابة؟ وكيف نمنع ارتداد البلاد إلى مربع الحرب؟

شروط فتح البوابة

أولًا، وقف إطلاق نار مراقَب بآلية مهنية مستقلة تشمل فتح ممرات إنسانية آمنة، وتحديد محيطات منزوعة السلاح حول المستشفيات ومرافق المياه والكهرباء. ثانيًا، حَوْكمة الوساطة تحت مظلة إقليمية–دولية واحدة تفوّض فريقًا تقنيًا موحدًا لإدارة الملف السياسي والإغاثي والاقتصادي، بدل مسارات متوازية متنافرة. ثالثًا، اتفاق مبادئ اقتصادية يضمن استقلال البنك المركزي، وحماية إيرادات الدولة من اقتصاد الحرب، والتزامًا بتدقيقٍ خارجي على الإنفاق. رابعًا، تعهدات تمويل مشروطة بالنتائج (فتح الطرق، وصول القوافل، تشغيل المرافق الحرجة) لا بالنيات. خامسًا، بداية مسار عدالة انتقالية يرسل إشارة للضحايا بأن السلام ليس عفوًا عامًا مقنّعًا، ولحملة السلاح بأن العودة للعنف مكلفة.

إطار 3R: من الإغاثة إلى التعافي إلى الإعمار

الإطار العملي هو Relief → Recovery → Reconstruction (3R)  في الإغاثة، الأولوية هي حماية الأرواح، وتأمين الغذاء والدواء والمأوى والمياه. في التعافي المبكر، نبدأ سريعًا بإصلاحات صغيرة–عالية الأثر: إعادة تشغيل محطات المياه والكهرباء، رفع النفايات، إصلاح المدارس والعيادات، دعم سلاسل إمداد الدواء والقمح، وبرامج نقد مقابل عمل لإعادة الدخل والكرامة. في إعادة الإعمار، ننتقل إلى الاستثمارات الثقيلة: النقل والطاقة والإسكان المؤسسي والخدمات الرقمية، مقرونة بالإصلاحات المؤسسية والقانونية التي تمنع إعادة إنتاج الهشاشة.

خارطة 180 يومًا للانطلاق

الأيام 1–30:  تثبيت الهدنة ميدانيًا، تفعيل آلية مراقبة مستقلة، فتح الممرات، إطلاق غرفة عمليات لوجستية موحدة، ومسح سريع للأضرار في المياه والكهرباء والصحة والتعليم والطرق.

الأيام 31–90:  تنفيذ حزمة «تعافٍ سريع» تشمل إعادة تشغيل مرافق المياه في المدن المتأثرة، إصلاح خطوط الكهرباء الحرجة، إعادة فتح 20–30% من المدارس والمراكز الصحية في المناطق الآمنة، وتمويل برامج نقد مقابل عمل لصيانة الطرق الداخلية والأسواق.

الأيام 91–180:  بدء مشروعات «جاهزة للتمويل» (Ready-to-Fund) في النقل والمياه والصرف الصحي، تعميم بوابة مشتريات إلكترونية شفافة، إطلاق صندوق منَحٍ صغيرة للبلديات والمبادرات المجتمعية، ووضع خطة رأس مال خماسية تحدد أولويات البنية الأساسية ومصادر تمويلها.

الاقتصاد والمالية: الاستقرار قبل الطموح

لن يزدهر الإعمار في ظل تضخمٍ جامح أو تشتّتٍ نقدي. المطلوب استقلال عملياتي للبنك المركزي، توحيد السياسات النقدية، وإعادة انتظام المالية العامة عبر موازنة طوارئ شفافة. على المدى المتوسط، يمكن السعي لاستئناف مسار تخفيف الديون الخارجية (HIPC) حين تتوفر شروط السلام والمؤسسات الفاعلة. ولتقليل الضغط على العملة، تُدار مشروعات الإعمار الكبرى على مراحل، مع تركيز أولٍ على السلع والخدمات الأساسية وتقليل واردات الكماليات.

الخدمات الأساسية وسلاسل الإمداد

«اليوم التالي» ينجح حين تعود المياه النظيفة، الكهرباء المستقرة، الرعاية الأولية، والتعليم الأساسي بسرعة. لذلك نحتاج خرائط تفصيلية لنقاط الاختناق: محطات مياه تحتاج قطع غيار، محولات كهرباء، طرق قُطعت بين مخازن الأدوية والمستشفيات، مطاحن قمح تعطلت. يتكامل ذلك مع عقود توريد مرنة، ومخازن إقليمية، وآليات تتبع رقمية للشحنات، حتى لا تتكسّر الإمدادات على حواف البيروقراطية أو نقاط الجباية غير القانونية.

الحوكمة والشفافية: من الصندوق الأسود إلى الدفتر المفتوح

لا إعمار بلا ثقة. تُنشأ بوابة مشتريات عامة إلكترونية تنشر الإعلانات، العطاءات، العقود، الدفعات، والمستفيدين النهائيين للشركات، مع تطبيق سياسة تضارب مصالح واضحة. تُفعّل أيضًا مراجعة خارجية ربع سنوية لبرامج التعافي المبكر، وتُنشر تقارير مبسطة للمواطنين (لوحات بيانات) تتبع تقدّم الأعمال، وتسمح بالتبليغ عن المخالفات. هذه البنية تعزل الإعمار عن اقتصاد الحرب، وتُطمئن المانحين، والأهم تُشرك المجتمع في الرقابة.

العدالة الانتقالية وDDR/SSR: سلامٌ لا يعفو عن العنف

السلام المستدام يتطلب نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، وإصلاح القطاع الأمني (SSR) بحيث تُدمج القوات المنضبطة في مؤسسات وطنية مهنية، ويُسحب السلاح الثقيل من المدن، وتُغلق مسارات التمويل غير المشروعة. بالتوازي، تنطلق عملية عدالة انتقالية تدريجية تركّز على الحق في الحقيقة، وجبر الضرر، ومسارات قضائية مختارة في الجرائم الأشد خطورة. الرسالة مزدوجة: لا إفلاتَ من العقاب، ولا انتقامَ يعيد إشعال الدورة.

مركزية الولايات والمدن والمجتمع المدني

الإعمار ليس مشروعًا مركزيًا صرفًا. البلديات، ولجان المياه، ونقابات المهن، والمنظمات المحلية هي الأقدر على تنفيذ الأعمال الصغيرة – الواسعة بسرعة: شبكات الأحياء، صيانة المدارس، العيادات، الأسواق، والطرقات الداخلية. يتطلب ذلك صناديق منح صغيرة مرنة، وأدلة تنفيذ معيارية، ومرافقة فنية خفيفة من وزارات الاختصاص. كما يلعب الشتات السوداني دورًا فاصلًا: تحويلات، خبرات، شبكات توريد، وسندات «الشتات» الاختيارية لتمويل مشروعات محددة شفافة.

تمويل مبتكر للإعمار

إلى جانب المنح والقروض المُيسّرة، يمكن تعبئة سندات مصغّرة للمشاريع البلدية مضمونة جزئيًا من مانحين، وتمويل نقد مقابل عمل يستبدل المساعدات العينية بدخلٍ لائق، وتجربة الدفع عند التحقّق من النتائج في المياه والصحة (تُصرف الدفعات بعد تشغيل المنشأة ومرور فترة أداء). كما يمكن عقد شراكات مع القطاع الخاص المحلي والإقليمي لتنفيذ مرافق الطاقة الشمسية الموزّعة، وإدارة النفايات، والاتصال الرقمي، بشرط عقودٍ عادلة وشفافة.

المؤشرات التي تخبرنا أن «اليوم التالي» بدأ

لا يُقاس التقدّم بالتصريحات، بل بـمؤشرات قابلة للتحقّق: عدد الأيام المتتالية بلا قصف في بؤر رئيسية؛ حجم القوافل التي تصل دون انقطاع؛ نسبة المرافق الحيوية التي عادت للعمل؛ ساعات التغذية الكهربائية الفعلية؛ عدد المدارس والعيادات العاملة؛ انخفاض أسعار سلة الغذاء الأساسية؛ عقود مشتريات منشورة ومُراجعَة؛ شكاوى مواطنين مُعالجة؛ وحجم الوظائف المؤقتة التي خلقها برنامج نقد مقابل عمل. كل مؤشرٍ منها ليس رقمًا فحسب، بل حياةٌ تُستعاد.

مخاطر يجب إدارتها

حتى مع الهدنة، سيحاول اقتصاد الحرب إعادة تشكيل نفسه عبر احتكار التوريد والجباية عند المعابر. العلاج هو الشفافية والرقابة المجتمعية وتنوع الموردين. خطرٌ آخر هو تجزئة المسارات بين الوسطاء؛ العلاج هو مظلة رعاية موحّدة تفوّض فريقًا تقنيًا واحدًا. وثالثها الإرهاق الدولي؛ علاجه ربط التمويل بنتائجٍ ملموسة تَظهر سريعًا للمانحين والمواطنين معًا، وتوسيع قاعدة الممولين لتشمل القطاع الخاص والشتات.

بوابة تفتحها الشروط لا الأمنيات

لن يُقاس نجاح «اليوم التالي» بما يُقال في القاعات، بل بما يتبدّل في حياة الناس خلال أسابيع: ماءٌ نظيف في الصنابير، دواءٌ متاح في العيادات، مدارس تستقبل التلاميذ، وأرزاقٌ تُكتسب بعملٍ لائق. ولأنّ السلام ليس عفوًا عامًا مقنّعًا ولا انتقامًا أعمى، فالمعادلة الرابحة تجمع بين العدالة الانتقالية (حقّ الحقيقة وجبر الضرر ومسارات قضائية للجرائم الأشدّ خطورة) وبين DDR/SSR تؤمّن مدينة بلا سلاح ثقيل، وقوى أمنٍ مهنية تُخضع السلاح للقانون. في المقابل، تُقفل أبواب اقتصاد الحرب بالشفافية والمنافسة: عقود منشورة، مستفيدون نهائيون مُعلَنون، مراجعات خارجية دورية، ومشاركة مجتمعية ترصد وتصحّح.

الدور الحاسم هنا للولايات والبلديات والمنظمات المهنية والنسوية والشبابية، ومعها الشتات السوداني بخبراته وتحويلاته وشبكاته. يمكن تمويل الانطلاق بمزيجٍ ذكي: منحٌ ميسّرة، عقود دفع عند التحقّق من النتائج، وسندات مصغّرة لمشروعات البلديات، مع تحصينٍ مالي يُبقي سعر الخبز والدواء والكهرباء في المتناول. وحين تتماسك حلقات الأمن والسياسة والتمويل والعدالة فوق أرضيةٍ من الشفافية والمرونة المناخية، سنجد أنّ السؤال لم يعد «متى يبدأ اليوم التالي؟» بل «كيف نُوسّع ما بدأ ونحميه من التراجع؟». إنّ بوابة الغد لا تُفتح بالشعارات؛ تُفتح بأفعال صغيرة متواترة تُراكم الثقة، حتى يصير «اليوم التالي» واقعًا مُعاشًا— لا عنوانًا مُعلّقًا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *