حِينَ كَانَ الفَنُّ رِسَالَةً

116
معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في الأمس البعيد كان الغناء السوداني مرآةً صافية للروح يقطر طهراً من الحناجر ويرسم في الوجدان لوحةً من الحنين والشجن والكرامة. 

كان صوت الفنان يرفع الناس إلى سماوات من الرقي وكان اللحن يُغنّي للأرض والوطن ويُسكب في القلب دفئاً لا يُشترى.

غير أنّا اليوم نرى مشهداً آخر حيث صارت بعض الفنانات أسرى للميديا يتنافسنّ في خلافات معلنة، ويثرنّ الغبار أكثر مما ينثرنّ الورد. 

صبرنا طويلاً على أغنياتٍ هابطة تاهت عن الجمال وابتعدت عن المعاني السامية حتى صار أثرها على مسامع وأخلاق جيل كامل هبوطاً مريعاً لا يشبه ما ورثناه من عظمة الكلمة ورهافة الذوق.

لقد اختلط في الساحة الغناء بفاحش القول واللحن بالصورة غير المحتشمة والذوق العام بمشاهد تستحي منها الأرواح قبل العيون. 

فأضحى الفن الذي كان رسالةً للارتقاء وسيلةً لعرض الخلافات والتكسب من الفضائح وصرنا نرى «الميديا» تعكس وجوهاً باهتةً وأجساداً عارية وكلماتً مبتزلة ، عوضاً عن أن تسمو بأذواق الناس.

وأكثر ما يوجع القلب أن هذه الخلافات خرجت من كواليس الغناء ومجتماعات الفنانيين إلى منصات التيكتوك حيث تنافرت الفنانات بألفاظ تخدش الحياء وتبادل سباب وفاحش قول لا يشبه نساء السودان ولا تربيتنا ولا أدبنا.

لقد تحولت المنصة التي كان يمكن أن تكون جسراً للوصول إلى العالم إلى ساحة لتصفية الحسابات وموطناً للانحدار.

حتى صار المشهد محزناً جمهورٌ من الشباب يتابع الشتائم والفضائح أكثر مما يتابع الأغنيات. 

أيُّ جرح هذا الذي يصيب الذوق العام…!!؟

وأيُّ عبث هذا الذي يبدد صورة الفن السوداني أمام الأجيال..!؟

والحق أن الجبل بريء من السواقط فجبل أولياء الذي أنجب القامة الهادي الجبل صاحب الروائع التي عانقت وجداننا مثل «أقول أنساك», «وما اتعودت أخاف من قبلك», «سمحة الصدفة», «وين يا حبيب», وأغنيات أخرى امتلأت بالشجن والصدق والعذوبة، لا يُمكن أن يُقارن بما نسمع اليوم من هبوط. 

وحقاً كما قال بصوته العذب: «أعمل إيه ما القسمة اختار كل الناس حاكماها ظروف»… جملةٌ تلخّص فلسفة الحياة، وتُعلّمنا كيف نرضى ونصبر ونمضي ولكن يا فنان هؤلاء لا توجد حدود أو ظروف تحكمهنّ.

والجبل ذاته هو الذي أهدانا أيضاً صاحبة الحنجرة الذهبية والتطريب والمبادئ المبدعة مكارم بشير فكانت اسماً على مسمّى، جبلاً من المكارم. 

بصوتها القوي العذب أمتعتنا بأغنيات راسخة مثل «الوصية», «سمحة الهيبة فوق مختار», «عشناك غنا» وغيرها الكثير ، كل أغنية كانت رسالة حب وحياة، تطرب القلوب قبل الآذان، وتُثبت أن الفن يمكن أن يكون ساحراً وأخلاقياً في آن واحد.

إن عمالقة الفن السوداني لم يكونوا مجرد أهل طرب وغناء، بل كانوا أولاً وأخيراً أهل خلق وأدب وحياء قبل أن يكون صوتهم موسيقى تعانق الروح. 

وهذا ما يميز مدرسة الغناء السوداني الأصيل ويجعلها رمزاً للارتقاء والصفاء والوفاء مهما هبطت أصوات من حولنا.

ولعل ما قاله أهلنا يظل حكمة بالغة: «لو ما حياهنّ يا مشناهنّ» فإن لم يُحيين بالذوق والأدب فقدهنّ أسأن إلى أنفسهن قبل أن يُسيئن إلى الغناء.

لكنني وسط هذا الانحدار لا أفقد الأمل فالغناء في بلادنا أكبر من عابري الموجة وأقوى من نزوات الشهرة. 

سيعود كما كان يملأ الليل بالطمأنينة ويعانق أرواح العاشقين وتبقى الكلمة الجميلة واللحن النبيل هما الخالدين مهما علا الضجيج من حولنا.

وفي النهاية يبقى القلب السوداني يتوق للحن الرقيق والكلمة الطيبة يتذكر من أعطانا الطرب النقي من جبل أولياء ومن كافة ربوع سوداننا الحبيب ويهمس لنفسه بأن الغناء الحقيقي كالحُبّ الحقيقي لا يموت…!

فهو خالد فينا يسكننا ويعيد إلينا جمال الروح مهما طال الليل ومهما هبطت الأصوات حولنا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *