
د. ناجي الجندي
كاتب صحفي
• حتى لا نَخدَعُ أنفُسِنَا ففي 1964 قامَتْ ثَورةٌ شعبيةٌ ضد حكم الفريق إبراهيم عبود، والثورة الثانية كانت في 1985 ضد حكم المشير جعفر نميري، والثالثة في 2019 ضد نظام المشير عمر البشير، وجميعها كانت ثورات شعبية بامتياز، ما يعني رضا الشعب الكامل للتغيير، ما يعني تحملنا لتبعات كل نتائج هذه الثورات وهذا التغيير، نجاح هذه الثورات تبعه فشل ما بعد هذا النجاح، وما يعني فشل الدولة السودانية، فالنتيجة دولة حروبات ونزاعات واختلافات، بالصدفة قابلت أحد السودانيين لا أعرفه في مكان عام، وتحدث معي عن السودان، وعرفت منه إنه ذهب إجازة للسودان لمدة شهر ونصف وعاد مؤخرًا، حكى بعض المواقف والأزمات، وتحسر على وطن لم يمت اليوم، بل هو ميت من زمن لكنه في ثلاجة التحنيط منذ العام 1956.
حينما زرت مصر في العام 2022 أكثر ما لفت نظري هو (الرشوة)، فالرشوة في الثقافة المصرية مثل الشاي والقهوة في المجتمعات العربية، شيء عادي جدًا، ولا يتم في الظلام أو تحت الترابيز مثلنا قديمًا، بل يتم بعد نقاش وحوار وجدل ومحاولة إقناع الضحية أن (يدفع بس)، حتى أن الشرطي في المطار حين طلب مني ذلك وسألته كيف أعطيك وكل الناس تنظر لنا وكذلك الضباط؟ ضحك وقال: (هات بس.. عادي)، تأسفت على حضارة مصر (الرشوية)، وثقافة مجتمعهم المبني على (هات أي حاجة يا عم).
في ذلك المول والسوداني يحكي عن أزمة السودان في موضوع الرشاوي، اتضح لي بأننا بدأنا بعد المصريين هذا الأمر، ولكننا سبقناهم بسنين ضوئية في هذا الفن، بل إن مقاولات الرشوة وصلت لحد أن تستلم جوازك في مدة تحددها قيمة الرشوة التي تدفعها، وأن تذكرة البصات السفرية تحتاج أيضًا هزة جيب، وقس على ذلك كل شيء كل شيء، وأخاف أن يأتي اليوم وتدفع قيمة الأرض التي استخدمتها لوضع حذائك للدخول للمسجد، فهذه الثقافة قابلتني في بلد إسلامي، نعم والله.
المصيبة الكبرى ليست في الرشوة، فالرشوة تجارة بين اثنين، فقد تحدث محدثي عن الأمراض والمعاملة غير الإنسانية للبشر، سجن ضرب تعذيب، فقد أمضى المسكين من عطلته الجميلة ثلاثين يومًا في السجن، وبلا ذنب، فالسجن أصبح شيئًا عامًا مثله مثل المدرسة ومواقيت الصلاة، ممكن تزور صديقك في بيته فيقولون لك (جوا قبضوه قبل شوية)، ذلك إن لم يخبروك إنه مات بحمى الضنك قبل شوية، أصبحنا ندخل الميديا لنتأكد من المتوفى اليوم؟ فنصف أصدقائنا ماتوا، ونصف جيراننا ماتوا، ونصف زملائنا ماتوا، السودان أصبح مقبرة كبيرة، والصور والأحداث التي نشاهدها يوميًا، تؤكد أن الذي يحدث اليوم هو نتيجة فشل قديم، تراكم اليوم ليعلن النهاية، التشكيلة الغبية التي تدير الشأن السوداني اليوم من وزراء ومسؤولين هي التشكيلة التي أعلنت بيدها نهاية الوطن، فوزير الصحة في بلده لا صحة، ووزير المالية في بلده بلا أموال، ووزير التجارة في بلده لا تجارة، ووزير الإسكان في بلده لا سكن، ووزير التعليم في بلده لا تعليم.
الصحة صفر، المال صفر، التجارة صفر، التعليم صفر. قيمة الأوطان بما تقدمه الأجيال لهذه الأوطان، وإلا يرحل كل من وجد فرصة الرحيل وذلك بلا تفكير في العودة، ولماذا العودة؟ أبسط ما يقدمه لك وطنك هو الموت، وحين تموت لن يسألك الله عن جنسيتك، فقط أنت أتيت في موعد حضورك، فحينما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، لم ينتقل بسبب حمى الضنك، بل انتقل لأن البلاد أصبحت لا تصلح للدعوة، فالدعوة كانت هي هدفه، أما نحن فهدفنا أن نعيش، وهذا أبسط ما تقدمه الأوطان.
فحين يكون الموت هو شعار الوطن، ولا يكون للوطن شيء يقدمه لك غير هذا الموت فحري بك أن تذهب إلى المدينة المنورة، لأن البلاد أصبحت لا تصلح لدعوتك في العيش.
شارك المقال