معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في عُمقِ القلبِ السودانيّ قُبالةَ الوطنِ لا في أطرافِه يسكنُ حنينٌ عارمٌ لا يعرفُ الصمت.

حنينٌ يشبهُ الزفرةَ الأخيرةَ لعاشقٍ طالَ بهِ السفرُ في صحراءِ المجهول. 

الزولُ السودانيُّ اليوم ليس فقط تائهاً في الجغرافيا بل في المعنى، في الغد وفي سؤالٍ ثقيلٍ يختنقُ في صدره كل مساء: «هل سنعود..؟ وهل سأجده كما أحببته…؟ أم كما تركتُه…؟ أم أسوأ…؟».

التوهانُ عندنا ليس ترفاً وجودياً بل إحساسٌ يوميٌّ بالغربة. 

هو شعورُ الحالمِ الذي لا يعرف كيف يبدأ خطوته الأولى نحو الحلم. 

كشابٌ يخطط للهجرة ولا يعرف وجهتها وأمٌ٤ تزرع الأمل في عيون أبنائها وهي تعلم أنه لا امل ولا جديد ينتظرهم.

كأبٌ يدفنُ أمنياته في جدار البيت القديم، وينتظرُ الكهرباء والماء والطمأنينة، ولا تأتي.

أطفالنا في الغربة والشتات ومن شاي الصباح وهم يستمعون لنشرة أخبار الحرب لا يفهمون كل ما يقال لكنهم يفهمون أنهم لن يعودوا قريباً.

نحنُ جيلٌ يعيشُ في المفترق في النصف المكسور بين وطنٍ نحبه ولا يفتح لنا ذراعيه، ومنافٍ تمنحنا الراتب ولا تمنحنا الانتماء. 

نحنُ جيلُ الخُطى الثقيلة على أرضٍ هشّة والعيونِ المُبلّلة بالأسى في كل نشرة أخبار. جيلٌ يكتب في جواز السفر «سوداني»، ويبحثُ يومياً عن معنى هذه الكلمة في طوابير السفارات، وفي خيالات العودة المؤجلة.

تجدنا نعيش في بيوت مُستأجرة في مدن لا تشبهنا نُربي أطفالنا على لهجة لم تكن لهجتنا، ونُقنع أنفسنا أن الغد سيكون أفضل. 

نُرسل حوالات مالية لأهلنا نحمل الوطن في شكل «شنطة عفش»، وملاح الويكة في عبوات صغيرة، ومقطع أغنية حنين في ذاكرة الهاتف.

ورغم كل ذلك يبقى الحنين مشتعلاً والقلق قائماً والصمتُ يرافقنا كلما سألنا طفلٌ بريء: «بابا، ليه ما بنرجع السودان..!؟»

لكننا رغم هذا التوهان لا نُشفى من حُبّ السودان.

هو أشبهُ بحبٍ مستحيلٍ لا نملكُ منه الفكاك نغضبُ منه ونحزن أحياناً ونحاول نسيانه ثم نعود لنكتشف أننا نحبه حد الموت . 

السودان فينا ليس علماً على الخريطة بل نغمةُ ربابة في ليالينا ورائحة شاي بالنعناع تُسكرنا و»مُلاح ويكة» يعيدُ ترتيب وجداننا كلما اختلّ. 

هو دعاء أمي وغُنا البنات في المناسبات، وركشة تمر في شارع ترابي وسط غبارٍ خفيف يلمع في شمس المساء.

نحلمُ بالسلام ليس كخبرٍ في نشرة أو توقيع على ورق بل كواقعٍ نعيشه دون أن نخاف. نحلمُ ببلدٍ نستيقظُ فيه دون فزع نذهب فيه للعمل لا للنجاة ونرجع آخر اليوم لنضحك لا لنعدّ خسائرنا. نحلمُ أن نُنجز لا أن ننجو وأن نُحب لا أن نرتبك وأن ننتمي دون أن نخاف من الغد. نحلم بأن نعود ونبدأ من الصفر لا يهم إن وجدنا بيوتنا ومكاتبنا ومحلاتنا أطلالاً فنحن قادرون بعزيمتنا على البناء من جديد. 

نحمل في صدورنا إرادةً أقوى من الركام ونؤمن أن الخراب لا يهزم شعباً يُحب الحياة.  نؤمن أن الجدران يمكن أن تُبنى لكن القلوب هي التي تبني الأوطان. نعود ولو على الرماد لأننا أبناء هذا التراب. وسنظل نحفر بأظافرنا على جدار الزمن حتى تشرق شمس جديدة.

والأمرُ كلّه لله… من قبلُ ومن بعد. فهو الذي يُحيي الأرض بعد موتها،

ويُحيي القلوب إذا صدقت، ويُمهّد للراجعين دروباً ما كانت في الحسبان.

بكل الحب نهمس: لا نُريد كثيراً….! 

فقط نشتاق أن نُشفى من التيه أن نعود إلى حضن الوطن بلا وجل وأن نطأ ترابه بشفاهنا قبل أقدامنا لا تراب الغربة البارد.

نحلم أن نحكي لصغارنا ذات مساء: «رجعنا… فالوطن لا يزال جميلاً ولا يزال فيه ما يُحب».

نعم نعود… حين تصافح الأرضُ جراحها وتغفر لنفسها حين يغسل النيلُ حزنه الطويل وتعود ضفافه لتزهر أملاً. ساعتها نعود وقلوبنا قبلنا.

أمنياتنا للسودان أن يُزهِر من جديد أن يسكنه السلام في قلوب الناس قبل ديارهم، أن تُرفرف رايات الطمأنينة في سمائه، وتعود الضحكة إلى الميادين، وتُسمع زغاريد الفرح في الحيشان.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *