
محجوب إبراهيم الخليفة
كاتب صحفي
العلم بين قداسة الفكر وزيف الألقاب
• في زمنٍ أصبح فيه الوهم أثمن من الفكر، والشهادات أثقل من الأفكار، تتعالى صيحة صادقة تُنادي بضرورة إعادة النظر في مفهوم الدرجات العلمية، تلك التي كانت يومًا وسام شرف يُعلّق على صدور العقول المبدعة، فإذا بها اليوم تُعلّق أحيانًا على صدور من لا يحملون من العلم إلا قشوره، ولا من البحث إلا تقليده.
السؤال الذي بات يؤرق كهنة العلم وعاشقي التجديد المعرفي هو سؤالٌ جوهري، لا يخلو من الحُرقة ولا من الغيرة النبيلة على قداسة الفكر:-
ما جدوى منح الدرجات العلمية الرفيعة لأشخاص لم يقدموا إضافة حقيقية أو إبداعًا علميًا جديدًا ينفع البشرية؟
1- أزمة الشهادة أم أزمة الضمير العلمي؟
ليست الأزمة في الشهادة ذاتها، فهي رمزٌ نبيل لمعنى السعي والجد والاجتهاد، ولكن الخلل يكمن في تحوّل العلم من رسالة إلى وظيفة، ومن بحثٍ عن الحقيقة إلى بحثٍ عن اللقب.
فحين تصبح الدكتوراه وسيلة وجاهٍ اجتماعي أو سلّم ترقٍّ وظيفي، لا أداة نهضةٍ فكرية، يفقد العلم روحه، وتغدو الجامعات مصانع للشهادات لا للمعرفة.
إنّ منح الدرجات العليا لمن يعيد تجميع ما كُتب من قبل دون رؤيةٍ جديدة أو اكتشافٍ مضاف، أشبه بمن يُقلّد وسام الشجاعة لمن لم يخض معركة. وهو في جوهره خيانة للأمانة العلمية، وتزييف لمعايير الجودة والتقييم الأكاديمي.
2- وهم البحث العلمي وإعادة تدوير الأفكار
كثيرٌ من الرسائل الجامعية اليوم لا تتجاوز كونها سردًا منمقًا لتجارب الآخرين، تُحشى بالهوامش وتُرصّع بالاقتباسات، وتُغلف بغلاف أنيق، ثم تُختم بعبارة:-
استوفى متطلبات نيل درجة الدكتوراه!
أين الإبداع؟ أين الجديد؟ أين ما يضيف للحضارة لبنةً أو يفتح للعلم أفقًا؟
لقد تحوّل البحث في بعض مؤسساتنا الأكاديمية إلى نسخٍ وتلخيصٍ وتكرارٍ مملّ، لأنّ معايير القبول لا تُقاس بالنتائج المبتكرة، بل بعدد الصفحات ومظاهر الشكل الأكاديمي.
وهكذا صار التعليم العالي بلا علوّ، والبحث العلمي بلا علم.
3- حوكمة الدرجات العلمية:- من المجاملة إلى المحاسبة
إصلاح هذا الخلل البنيوي لا يتم بالشعارات، بل عبر حوكمة دقيقة للنظام الأكاديمي، تضمن النزاهة والجدارة. ومن أبرز مقومات تلك الحوكمة:
تفعيل لجان تقييم مستقلة من علماء مرموقين غير تابعين للمؤسسة المانحة، لضمان الحياد الأكاديمي.
إلزام الباحث بأن يقدّم إضافة علمية أو تطبيقًا عمليًا مبتكرًا، لا مجرد إعادة صياغة لما قيل.
ربط منح الدرجة بالأثر العلمي أو التطبيقي، بحيث يُقيّم العمل بمدى إسهامه في المجتمع أو المعرفة.
محاربة ظاهرة المجاملات والوساطات الأكاديمية عبر تشريعات رادعة، تجرّم منح الدرجات دون استحقاق.
إنشاء منصات شفافة لنشر الأبحاث الجامعية، تُتيح للباحثين والمجتمع تقييم جودتها وقيمتها الفعلية.
فالعلم لا يُكرَّم بالمحاباة، وإنما بالمعاناة الفكرية والتعب في ميدان الابتكار.
4- منح درجات علمية مهنية للمبتكرين الحقيقيين
من المدهش أن كثيرًا من أعظم الابتكارات التي غيّرت وجه البشرية لم تخرج من قاعات المحاضرات، بل من ورشٍ متواضعة، ومصانع صغيرة، وحقولٍ صابرة، وبيوتٍ ملهمة.
فالعقل المبدع لا ينتظر مقعدًا جامعيًا ليبدع، بل يشتعل شغفًا أينما وُجد.
من هنا تأتي الدعوة الجادة إلى إقرار نظام جديد للدرجات العلمية المهنية، يُمنح للمخترعين والمكتشفين والمبتكرين الذين يقدمون منجزًا حقيقيًا يخدم الإنسانية، مهما كان مستواهم الأكاديمي أو مكان عملهم.
ويقوم هذا النظام على معايير واضحة:-
الأثر التطبيقي للابتكار ومدى مساهمته في حل مشكلة واقعية.
الأصالة العلمية والفكرية في الفكرة أو التصميم أو الاختراع.
القيمة المجتمعية أو الاقتصادية أو البيئية الناتجة عن الابتكار.
ويمكن أن يُمنح مثلًا لقب:-
دكتور مهني في الابتكار والتطبيق العلمي
أو «زميل وطني في البحث التطبيقي»،
ليكون اعترافًا رسميًا بقيمة الإبداع الحقيقي خارج الأسوار الأكاديمية.
بهذه الخطوة، نرد الاعتبار للعبقرية الإنسانية، ونكسر احتكار الشهادة لمن يكتب، دون من يبتكر.
فكم من عبقري مجهول غيّر التاريخ، وكم من «حامل شهادة» لم يُضِف سطرًا جديدًا في سفر العلم!
5- الجامعات بين رسالية الفكر وسوق الشهادات
حين تصبح الجامعة مشروعًا تجاريًا أكثر من كونها مشروعًا حضاريًا، تتبدّد القيم. فالجامعة ليست مكانًا لتكديس الورق، بل منارة لخلق الأفكار، ومختبرًا للضمير الإنساني.
وحين يَخرج من الجامعة آلاف «الدكاترة» دون أن نرى أثرًا ملموسًا في واقعنا العلمي أو التقني أو الاقتصادي، فذلك يعني أن هناك خللًا في المنهج لا في المتعلم فقط.
إنّ استعادة مكانة الدرجات العلمية تمرّ عبر إعادة تعريفها:-
فالدكتوراه ليست شهادة نهاية الطريق، بل إعلان بداية مسؤولية جديدة نحو خدمة الإنسانية.
6- نحو ميثاق شرف أكاديمي عالمي
العالم اليوم بحاجة إلى ميثاق شرف أكاديمي عالمي يضبط الأخلاق العلمية، ويعيد الاعتبار للبحث النزيه.
ميثاق يقوم على ثلاث قواعد راسخة:
لا علم بلا صدق.
لا شهادة بلا إنجاز.
لا جامعة بلا رسالة.
وحين تُدار الجامعات بروحٍ من الضمير والمسؤولية، تصبح المعامل مصانع للأمل، لا مختبرات لنسخ الأفكار.
حين يُهان العلم باسم العلم
لقد آن الأوان أن نعيد للعلم قدسيته، وللشهادة معناها، وللجامعة رسالتها. فليس كل من نال لقب «دكتور» عالمًا، ولا كل من حمل شهادةً باحثًا.
الفرق بين العالم وصاحب الشهادة، كالفرق بين من أشعل النار لينير بها العالم، ومن أخذ جمرة من غيره ليتدفأ بها وحده.
فلنُعد ترتيب البيت الأكاديمي من الداخل، ولنضع حدًّا للتزييف باسم التخصص،
ولنؤسس لجيلٍ يُدرك أن العظمة لا تُمنح، بل تُنتزع بعرق الفكر، وصدق الضمير، ونور الإبداع.
حوكمة الدرجات العلمية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لإنقاذ قيمة العلم نفسه.
فالعالم الحقيقي هو من يضيف إلى المعرفة لبنة جديدة، سواء كان في معمل جامعي أو في ورشةٍ صغيرة،
لأن الابتكار الصادق هو أرفع شهادةٍ في الوجود.
شارك المقال