البراء بشير

البراء بشير

كاتب صحفي


‏• قبل بضعة أيام كنت في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية أقضي بعض الحاجات، ثم اجتمعت مع بعض الرفاق لتوديع صديق متجه إلى إريتريا، ودار بيننا حديث عن تلك الدولة وتاريخها وروابطها الثقافية والاجتماعية بالسودان، والتاريخ المشترك الذي يجمع الشعبين؛ ومن المعلوم أن دولة إريتريا هي إحدى دول القرن الإفريقي، وهي الدولة الوحيدة من الدول المطلة على البحر الأحمر التي حملت اسمه، فإن إسمها مشتق من اللفظ اليوناني (إريثرا سالاسا)  أي البحر الأحمر.

تحدثت مع أصدقائي عن شيوع اللهجة السودانية في إريتريا، وانتداح بعض العادات السودانية فيها، وقلت لهم مازحاً: قد يحسب الجاهل بأمرها أنها كانت جزءاً من السودان وليس إثيوبيا من شدة التشابه بينهما؛ بعد يومين من ذلك الزمان، اتجهت إلى المدينة المنورة، وفور وصولي إليها صرت أتجول في محطة الحافلات والسيارات الصغيرة التي تجاور المسجد النبوي، باحثاً عن وسيلة تقلني إلى الحي الذي أقيم فيه، وهو يبعد تسعة أميالٍ إلا قليلاً من المسجد النبوي؛ شاء الله عز وجل أن أستغل سيارة يقودها شاب إريتري طَلقُ المحيا باسم الثغر، يتكلم بلباقة وبلغة زاهية، يجمع فيها بين الفصحى والدارجة السودانية، وتتخلل حديثه بعض ألفاظ أهل الحجاز؛ سألني هذا الشاب عن حال السودان، وعجبت من إلمامه بكثير مما يحدث في البلاد، ويبدو من كلامه أنه متابع دؤوب لأخبارها ومستجداتها، ثم عرفني بنفسه، وأخبرني بأنه كان يقيم في السودان.

بعد ذلك حدثني عن رحلته من إريتريا إلى السودان، تلك الرحلة التي ارتاد فيها المجهول، سالكاً طرقاً وعرة، وقد كان حينها حدثاً لم يتجاوز عمره ثلاثة عشر عاماً، وكل ذلك في سبيل تحصيل العلم، فقد درس (الخلوة) في القضارف، وأتقن اللغة العربية، وإني ألحظ الحنين إلى القضارف وأهلها في نهج حديثه، حنيناً يضارع امتنانه للأرض التي احتضنته.

وقال لي بالحرف الواحد:(فضل السودان علينا كبير بعد الله عز وجل)، سألته عن اللغة السائدة في أوساط الإريتريين هل هي العربية أم التجرينية، ردّ على سؤالي بسؤال المتعجب المازح: تعرف التجرينية؟! هل أنت إريتري الأصل؟! فأخبرته بأني مولع بثقافات القرن الإفريقي. تبسم ثم أكد لي أن التجرينية هي الأكثر انتشاراً. أعادني الحوار معه إلى حقبةٍ كان لي فيها زملاء دراسة من الإرتريين وغيرهم من الأفارقة وكذلك العرب، وكانت جامعتنا تجاور جامعة إفريقيا العالمية، وأذكر أنني في طريق العودة إلى منزلي كنت أرى طلاب جامعة إفريقيا وهم أشد تنوعاً من طلاب جامعتنا، فإلى جانب العرب والأفارقة ترى أبناء الشرق الأقصى وأواسط آسيا ينهلون من معين العلم، ويتعلمون لغة القرآن الكريم، وهو ما رسّخ في ذهني أن الجغرافيا التي تعرف اليوم بالسودان هي أرض جامعة مِضيافة، تجذب ولا تُنِّفر وإن تكالب عليها الصائلون. تتشكل وسائل الجذب في هذه الأرض بتشكل الأزمنة والحِقَب، ففي بادئ الأمر كانت وسائل طبيعية كالنيل والأرض الخصبة والثروات المعدنية، وبعد بزوغ فجر الإسلام في القارة، صارت الأرض جاذبةً، لأنها تعدّ طريقاً للحج يسلكه جُل الحجاج الأفارقة، وبعد التمازج والتصاهر استحالت وسائل الجذب إلى وسائل ثقافية وعلمية، وظلت كذلك حتى حدوث الفاجعة.

ويجب أن أذكر أنني هنا لا أتحدث من منطلق فخرٍ قومي، فلا خير في العصبية القومية، ولكن أسرد ما قصته عليَّ كتب التاريخ عن هذا البلد الذي أتمنى أن يكون مستقبله خيراً من ماضيه وحاضره، وأن يعود كما كان جامعاً للأفارقة، ومنهل علمٍ يقصده المغاربة والمشارقة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *