(حنين) .. «لمحات من ذكريات الطفولة الباكرة»

152
غادة محمد

 هدهدة 

(لَمَّنْ كُنْتَ صَغَيْرَةَ .. بَلْعَبْ فِي التُّرَابْ  

مَامَا لَبَّسَتْنِي  الجَّزْمَةْ والشُّرُّابْ

مَشيْتْ لِلْأََفَنْدِي أَدَّانِيْ كِتَابْ 

قَالْ لَيَّا أَكْتُبْ عَرَبِيْ ..  كَتَبْتَ حِسَابْ

بَابَا سَافَرْ مَكَّةْ .. جَابْ لَيْ حِتَّتْ كَعْكَةْ 

والْكَعْكَةْ .فِيْ الصَّنْدُوقْ والصَّنْدُوقْ عَايِزْ مُفْتَاحْ  .. 

والْمُفْتَاحْ عِنْدَ النَّجَّارْ  ..   والنَّجَّارْ عَايِزْ فِلِوُسْ 

والْفِلِوُسْ عِنْدَ السُّلْطَانْ .. والسُّلْطَانْ عَايِزْ عَرُوسْ

والْعَرُوسْ عَايِزْة مِنْدِيلْ  .. والْمِنْدِيلْ عِنْدَ الْأَطْفَالْ)

*

لا أمَلُّ أردِّدُ بحنُّوٍ وشجن، هذه التبتبات العذبة، أستعيدُ بها فِردوسيَ المفقود في الزمن. أرهقني التفكير، وأشعرُ بالتعب. أريدُ أن أستعيدَ لحياتي حقبة زمنية تتراءى لذاكرتي وكأنها أبعد من سنوات ضوئية. أستذكرها، وكأني ما كنتها، ولا تدرجت في عتباتها، وكانت لحياتي بداية تكوين هوية شخصية ..

كنتُ امشي فوق التراب، حافية القدمين، وقد أُصاب بجُرح من قطعة زجاج، أو بعض الأشياء المؤذية المندسة تحت التراب، فأعود إلى البيت أبكي، دموعي تغسل وجهي. ويسرع أبي وأمي وإخوتي لضِماد جُرحي. كم كان بسيطاً وجعي، وأسلوب علاج ومعافاة جرحي! وينتهي المشهد بالمحبة والإرشادات العفوية. 

عقلي يحفظ كل ما يدور حولي. أنصِّبُ نفسي أماً وراعية لدمية صورها عقلى آدمية من لحم ودم. صنعتُها من جذاذات القماش، وبعض عيدان القصب، وأرضعتها من نهديَّ الذين لم تبرز بعدُ فيهما تفاحتا الأنوثة. أهدهدها بالتبتبات لتنام، وبالقُبلات لتصحو. أعيدُ على مسامعها بحنان نصائح أمي لي «لا تمشي حافية القدمين. لا تتحدثي للغرباء. لا تتأخري في العودة من اللعب إلى البيت. لا تتسكعي مع أندادك في الطرقات. لا تعبثي. لا تقعي في الأفعال الشقية. لا، ولا، ولا ….». 

دُميتي مطيعة أكثر مني، فهي لا تفعل أي شيء إلا بإرادتي. وأنا في رحلة اكتشافي للحياة، أنسى ما قالته أمي.

ذات يوم، اعتقدت بأن دُميتي قد كبُرت، وحان موعد عُرسها. صنعتُ لها عش الزوجية، وزوجتها – وأنا أمها – ما زلت طفلة أعيش طفولتي البريئة. 

وأفيق، ذات يوم، وأرى بعض الرفقة من حولي قد كبروا، ويحمل كل واحد منهم حقيبة مدرسية في يده، فيها وجبة إفطاره، وكراسات وأقلام وألوان. وألحُّ على أمي أن تشتري لي مثلهم، وتلبسني زي المدرسة مثلهم، لأذهب معهم إلى المدرسة. وأعافُ اللعب مع أترابي، وأتطلع لسنوات العمر أن تمضي مسرعة، من أجل أن أحصل على ما ينماز به الكبار. وكثيراً ما انسلخ عن رغبات الصغار مثلي، لأثبت لنفسي أنني قد صرت صبية يافعة الأنوثة. 

عجباً ما يحدث لنا! حين نكبر وتكبر همومنا وأحزاننا، يشدنا الحنين للعودة بالعمر إلى براءة الطفولة الباكرة!

وحين كنا صغاراً، كنا نغارُ من امتيازات الكبار! لا نعرف نعمة الأشياء إلا حين نفقدها، ونهفو إلى ما ليس لنا. خُلقنا والقناعة ليست ديدننا، والطموح يشدنا، ويدفعنا إلى الإسراع في تصوره وتحقيق أحلامنا ورغباتنا، وقلما يبطئ اليأس خطواتنا. 

وهكذا .. نكبر وتكبر أحزاننا من تشابك وتعقُّد سُبل الحياة، فنأسى ونستعيد في فن الطفولة العذب فِردوسنا المفقود في الزمن. هكذا عدتُ أبحثُ عن حِقبةٍ زمنيةٍ وكأنها أبعد من سنوات ضوئية. 

يؤلمني جُرحي في قلبي، وأنا لا أملكُ دواء غير البكاء. وأمي، وأبي وإخوتي، وقناعتهم، ينظرون إلي قد كبرت على البكاء! 

تتعثر خطواتي في دروب الحياة. وفي قدميَّ حذاء، لا أخشى قطعة زجاج تخترق قدمي، لأن جِراحي أعمق، وتنزف دون دماء. فقط، ما زالت بعض الأشياء، من براءة الطفولة الأولى تبهرني .. قلمٌ، ومحبرةٌ، وصفحةٌ بيضاء.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *