د. عبدالمنعم سليمان الحسين
كاتب صحفي
• قبل نيف من الزمان كان يراع الخريج يختط في القراطيس أمجاداً وعلماً وأدباً، وهو يرنو إلى الثريا في عليائها، ويهمس في أذنها بأن جرابه مثقل بحلو الأماني للأسرة الصغيرة والممتدة وللوطن، وأن هذه الآمال والأماني مغلفة بسيلوفان العشم في يوم التخريج، بأن تكون هذه الانطلاقة هي تزيين جيد الأسرة بقلادة التفوق، لتنفجر حينها شلالات الفرح، وتزيّن هامة الوطن بالتاج المزين بزبرجد الوعود بأن يكون بين كل الأوطان أفضل وطن.
في ذلك الوقت قبل أكثر من الثلاثين عاماً، وقبل أن يصيب جسد التعليم الكثير من بثور، الإهمال، وتجاهل حقوق المعلمين، وغض الطرف عن تطوير التعليم الحكومي العام، وفتح الباب على مصراعيه للتعليم الخاص، دون الضوابط الكافية التي تكبح جماح انحداره نحو الرغبة في الثراء السريع، دون التركيز على المعينات التي تعينه لبلوغ جزر الإجادة من قبل القائمين عليه، والتي كانت قبل ذلك متوفرة للتعليم الحكومي العام في كل مراحله من أولي ومتوسط وثانوي، وكانت الثانويات في ذلك الوقت ترفد الجامعات على قلتها بنوابغ، يثرون الحياة الأكاديمية، والثقافية، والاجتماعية، فكراً وعلماً وتفاعلاً، وقد كان من عباقرة ذلك الزمان في جامعة الخرطوم بروف محجوب عبيد طه ابن القطينة، الذي بدأ بها تعليمه الأولي، ثم الدويم التي درس فيها تعليمه المتوسط في مدرسة الدويم الريفية الوسطى، التي كانت تتبع لبخت الرضا وقتها، ثم حنتوب الثانوية، ثم جامعة الخرطوم وبروز النبوغ في كلية العلوم، ثم الابتعاث لبريطانيا وجامعة دراهم Durham ونيل الماجستير، وحظي فيها بكل جوائز التفوق، ثم اوكسفورد والدكتوراه متميزاً على كل الأقران، ثم العودة لجامعة الخرطوم كلية العلوم قسم الفيزياء ثم، عمادة الكلية التي عينه عليها بروف عبدالله الطيب عندما كان مديراً للجامعة. وفي وقت عمادته لكلية العلوم توصل إلى أسباب فشل أبوللو ١٣ واحتراقها، وذلك ما عجزت عنه وكالة ناسا، مما جعلهم يتهافتون عليه وكذلك معظم الجامعات الأمريكية للتعاقد معه، رافضاً كل العروض، مفضلاً أن يفيد عالمه المحلي في جامعة الخرطوم والإقليمي في عالمه العربي، فتعاقد بعد ذلك مع جامعة الملك سعود، وخط بها من الإنجازات ما حير الجميع، وقد كان عالماً كونياً، وربط علمه بكل ما جاء في القرآن الكريم، وكان زميلاً في المركز العالمي للفيزياء النظرية، وهو العالم العربي الوحيد الذي حصل على هذا التميز. ومن تميزه العالمي أيضاً اختياره عضواً في لجنة التحقيق لدراسة أسباب تسرب مفاعل شرنوبل النووي.
الحديث عن هؤلاء القامات يطول ويطول، وتطول به قاماتنا بين الأمم وجامعاتنا هذه تخرج منها بروف عبدالله الطيب، وبروف علي المك، وعبقري الرواية العربية الطيب صالح، وصلاح أحمد إبراهيم وإزميل فدياس وروح عبقرية.
قصدت أن أتجول في بساتين هؤلاء المبدعين، لأغسل من قراح ماء بساتينهم مرارة أصابت حلقي وأنا أشاهد بالصدفة في اليوتيوب فيديو لحنة الخريج، وفيها رأيت نقش الحنة على أكف الخريجات ورسمها على أكف الخريجين (وما عارف مين حنن مين!!!!)؛ وأيقنت أن هذه الحنة الحالكة السواد في أكف الخريجين، توازي حالك سواد ليالي الوطن الذي ظللته غمامات أدخنة المقذوفات، وهذه الحنة تعتبر وفد مقدمة لما سيأتي بعدها من قيدومات التخريج، كسيرة التخريج، وكيتة التخريج، ثم في الليلة الكبيرة، وما أن ينادي المذيع اسم الخريج حتى تضج القاعة بالموسيقى وغناء صاخب قد يتردد أحياناً أجش من حنجرة قونة حشرجها آفة التشيش، ثم يحيط الجميع بالخريج أو الخريجة في رقص صاخب في الطريق إلى المنصة تنتحب فيه أرواب التخريج.
لماذا هذا الضجيج وللعلم وقار حفظه هؤلاء الأفذاذ الذين ذكرتهم وقد تخرجوا من عدة جامعات، جامعة الخرطوم وقتها وجامعات كثر خارج الوطن للماجستير والدكتوراه.
لا نمانع في الاحتفال بالتخريج، ولكن في هدوء دون صخب يخدش وقار العلم.
شارك المقال
