الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• كانت الشمس تلسع وجه الرجل العجوز وهو يجلس أمام منزله في الخرطوم، يشرب الشاي ويحدق في الطريق الترابي، حيث كانت الحياة تتدفق بعنفوان غريب، مثل أنهارنا المتوافرة في موسم الفيضان، قوية وجارفة لكنها تضيع في المجهول دون أن تروي أرضاً.
كان يفكر في أبنائه الأربعة، واحد في لندن يعمل طبيباً يشهد له الجميع بالبراعة، وواحد في أمريكا مهندساً يبني ناطحات السحاب، وواحد في الصين يعمل في التجارة وأصبح من كبار الموردين، وواحد هنا جالس بجانبه عاطلاً عن العمل، ذكاء الأولاد متساوٍ لكن الأرض مختلفة.
سألني: أتعلم لماذا نجح أولادي هناك وفشلوا هنا؟ لأن هناك أرضاً تصلح للبذر، وهنا أرض مليئة بالألغام، كل بذرة تموت قبل أن تطلع.
قلت له: وماذا تفعل؟
قال: يجب أن نعمل بقاعدة (تسليم مفتاح) السودانية.
قلت: أي مفتاح؟
قال: مفتاح البلد، نعطيه لمن يحسن استخدامه.
لم يكن الرجل العجوز مجنوناً، كان يحمل حكمة عمر طويل قضاه يشاهد كيف أن هذه الأرض التي يمكن أن تطعم العالم أصبحت لا تطعم أبناءها، كيف أن الناس هنا يتصارعون على الظل والماء والهواء، بينما إذا ذهبوا إلى أرض الغرب أو الشرق أصبحوا من أصحاب الإنجازات.
انظر حولك، انظر إلى الأطباء السودانيين في بريطانيا، كيف هم من أفضل الأطباء في المستشفيات البريطانية، انظر إلى المهندسين في كندا، انظر إلى التجار في العالم، انظر إلى الرياضيين في قطر، كلهم نجوم ساطعة، لكنهم هنا يصبحون مثل الشموع تنطفئ في ريح الضغينة. ولكل ذي مزية مسبة متأهبة.
لماذا؟ لأن النظام هو الفرق، النظام الذي يحترم الوقت، النظام الذي يكافئ الجهد، النظام الذي يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، النظام الذي لا يسألك من أي قبيلة أتيت، أو أي دين تعتنق، النظام الحقيقي الذي لا يرتدي القفازات الحريرية. الذي يسمي الخيانة باسمها، ويطلق على الجبناء لقبهم. لا يزيّن وجه الغدر بأكاليل الغار. لا يصافح يداً أمسكت سلاحاً بالأمس القريب ضد شعبها، ثم ترفع علامة النصر اليوم في المطار للقادمين، البِغال والغزاة.
النظام الذي ينظر إلى ما تستطيع أن تقدمه لا إلى من أنت.
هنا، نحن ندفن موتانا ونحن ندفن أحلامنا معهم، ندفن القدرة على إدارة التنوع، ندفن إمكانية تحويل التنوع إلى قوة، الطقس هنا يمكن أن يكون مصدراً للطاقة والزراعة والسياحة، لكننا نحوله إلى سبب للمعاناة، القبائل هنا يمكن أن تكون نسيجاً جميلاً، لكننا نحولها إلى سبب للصراع.
لذلك، فكرت طويلاً، ووصلت إلى فكرة تسليم المفتاح، ليس استسلاماً، ولكن إدراكاً أن هناك من يمكنه أن يعمل بالمفتاح أفضل منا.
الخياران هما بريطانيا أو الصين.
بريطانيا، لأنها تعرفنا، لأنها كانت هنا من قبل، لأن لديها نظاماً إدارياً صنع منها إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، لأن لديها تاريخاً في فرض النظام، لأنها تستطيع أن تأتي بنظام قضائي نزيه، بنظام تعليمي ينتج أطباء ومهندسين يعملون هنا كما يعملون في لندن، لأن لديها لغة العالم، ولأنها يمكن أن تجعل من السودان جسراً بين أفريقيا والعالم الغربي.
أما الصين، فهي القوة الصاعدة، التي لا تتوقف عن العمل، التي تستطيع بناء المدن في الصحراء، التي لديها المال والتصميم، التي لا تهتم بالاختلافات القبلية والدينية، التي تريد الموارد وتستطيع أن تخلق البنية التحتية التي نحتاجها في عشر سنوات بدلاً من مائة سنة، الصين يمكن أن تجعل من السودان محور طريق الحرير الجديد، بوابة أفريقيا إلى العالم.
بريطانيا ستمنحنا الديمقراطية والنظام، الصين ستمنحنا التطور الاقتصادي والاستقرار.
أيها السودانيون، نحن مثل ذلك الرجل الذي يملك أرضاً مليئة بالماس، لكنه لا يملك الآلة لاستخراجه، ولا يعرف كيف يبيعه، فيظل فقيراً بينما الآخرون يستخرجون الماس بأرخص الأثمان.
ليس عاراً أن تعترف أن غيرك أفضل منك في شيء ما، العار أن تظل متشبثاً بفشلك وكبريائك.
لنسلم المفتاح، لنجرب، ربما نرى أبناءنا يعودون من الخارج لأن الداخل أصبح مثل الخارج، ربما نرى الأرض تزهر، ربما نرى النهر يعطي خيره دون أن يغرقنا.
الماء حولنا، والسماء فوقنا، والأرض تحتنا، لكننا نموت عطشاً وجوعاً.
سلموا المفتاح بلا خيلاء زائفة، رجاءً.
فنحن شعب فشل في إدارة بئر ماء، فكيف له أن يدير دولة؟!

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *