عمر غلام الله

عمر حسن غلام الله

قاص وكاتب صحفي

• أكملت دراستي بالمغرب وعدت إلى السودان وانخرطت في العمل وتزوجت وكونت أسرة ولم أعد أذكر الأندلس إلا لماما.  ومضت السنوات ومضى عقد من الزمان وكاد أن ينقضي عقد آخر، وفجأة عادت إلى الوعي من العقل الباطن ذكريات الأندلس، إذ توجب عليّ السفر إلى مدريد في مهمة عمل.. وكان لابد من عود أحمد إلى ديار الأجداد – الأندلس.

ومرّ شريط كامل أمامي وأنا بين جنبات قصر الحمراء، وخفق قلبي حين تجولت بين أشجار «جنة العريف»، لم يتغير فيها شيء البتة.. وهاهي الكنبة التي جلسنا عليها.. وكأن تلك الجالسة عليها الآن هي نفسها التي جلست عليها بجواري منذ عشرين عاما، ترى أين هي الآن؟ وماذا صارت إليه؟ وهل تزوجت وهل لديها أولاد؟

كل ذلك جال بخاطري وأنا أسير الهوينى على نفس الممر وباتجاه الكنبة التي مازالت على حالها كل تلك السنوات، ونظرت خلسة إلى الجالسة عليها، ودق قلبي بعنف وتسارعت ضرباته.. كأنها هي، ولم أستطع مقاومة النظر إليها، وتعمدت أن أجلس في الطرف الآخر للكنبة – ولم أكن أقصد سوءا – وبدأت أختلس النظر إليها.. نفس الملامح والشبه والقوام، فقط اختلف لون بشرتها فهذه أميل إلى السمره، وأحست هي بأني مهتم بها فوفرت عليّ جهدا كبيرا إذ تحدثت معي وسألتني من أين أنا – وذلك سؤال للتعارف لدى الغربيين كما تعلم – فأجبتها وأنا أقترب منها بأنني من قلب أفريقيا، فتبسمت ابتسامة غامضة وقالت لي إن أمها أخبرتها بأن والدها من أفريقيا، كان في صوت الفتاة شيء من الحزن علمت من خلال حديثها أنها لم تر أباها قط فحزنت لحزنها.

سارا! سارا! والتفتت الفتاة إلى مصدر الصوت، وقالت لي هذه أمي تناديني ويجب أن أذهب.. أحسست بأن كياني كله يريد أن يذهب معها، قوة هائلة تجذبني لتلك الفتاة، لا لم تكن أبداً مثل تلك الجاذبية لتلك الفتاة في هذا المكان منذ عشرين عاما، بل شيء آخر أقوى وأطهر، وحاولت ثنيها عن اللحاق بأمها، إلا أن هذه كانت قد لاحظت تأخرها فجاءت تستطلع الخبر.

ووقعت عيناي على أمها.. ولوهلة تسمر بصري عليها.. فوقع قلبي بين أضلعي.. هببت واقفاً كمن لسعته جمرة ولم أتمالك نفسي واقفاً فهويت إلى الكنبة، فلحقتني الفتاة ووضعت ذراعيها حول عنقي وأنا في حالة يرثى لها، لاهث متقطع الأنفاس.. وكالحشرجة خرج صوتي من فمي.. سألتها هل هذه أمك؟ قالت نعم، استنجدت بالأم ونظرت إليها متوسلا فجاءتني الإجابة بإيماءة من رأسها، فأيقنت بأن الفتاة ابنتي.. 

بكيت بكاء مراً، بكاء الناقة على فصيلها، واحتضنت سارا – ابنتي التي كانت الثمرة والحصاد والضحية لهفوة في لحظة ضعف بشري وغياب إيمان. 

قالت لي لم آخذ عنوانك ولم تتصل بي على عنواني الذي أعطيتك إياه.. شعرت بها تتحرك في أحشائي بعد أن رجعنا لأمريكا وهناك وضعتها، وفي العام التالي جئت بها إلى هنا على أمل أن أجدك، وصرت كل عدة سنوات آتي عسى ولعل، ومع مر السنين فقدت الأمل في اتصالك وفي لقائك، ولم أكن أعلم أن ساعة اللقاء بابنتك قد حانت، وحان وقت راحة ضميري، فقلت لها: وحان وقت تعذيب ضميري.)

لم يتمالك محدثي نفسه فأجهش بالبكاء مرة أخرى وبدأت قواه تخور، فسندته حتى وصلنا إلى أقرب كنبه فأجلسته عليها، فقال: (ماذا عساني أن أفعل؟ أعلم أن هذا خطأي وهذه مصيبتي وحدي، لا بل مصيبتي ومصيبة ابنتي، فهي ولدت وتربت في بلاد أخاف أنا نفسي على أخلاقي منها، فبلاداً دونها إفساداً كانت هي – أي ابنتي – ثمرة إفسادها، فكيف اطمئن عليها هناك وهي من صلبي؟ وهي حتماً لا تعرفني حتى تأتي وتعيش معي في بلادي، وحتى إذا وافقت على المجيء معي فإنها لن تتحمل ما نتحمله نحن من ضنك العيش وقسوة الحياة. دبرني يا أخي.. والأدهى والأمر مسألة الدين.. فأمها قد نصرتها رغم أنها ولدت على الفطرة وأنها لأب مسلم. لقد غاب وعيي لحظتها يا أخي لأجل نشوة عمرها ثوان أسفرت عن آلام أربعين عاما، عشرون منها عمر ابنتي التي حُرمت من الأب سنوات عمرها جميعا، وعشرون أخرى عاشتها أمهاً عذاباً لأجلها وبسببها، وما سأعيشه أنا بقية عمري). 

قلت له مواسياً ومعزياً إن الله يغفر الذنوب جميعا فاستغفره، وسيقضي بشأن ابنتك أمراً كان مفعولا.. فقط فوض أمرك إليه انه نعم المولى ونعم النصير. فأحسست به قد هدأ قليلا وأخذته معي إلى مقر إقامتي وهو يجر رجليه جراً كأن على أكتافه جبالاً ينوء جسده النحيل بحملها.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *