عمر غلام الله

عمر حسن غلام الله

قاص وكاتب صحفي

• إلتقيته مصادفة في أحد مقاهي مدريد بعد افتراق دام عقوداً، وقد كنا زميلين في المدرسة المتوسطة، وحين رأيته في مقهى «كابو نيقرو» كان ساهماً واجماً لم يحس بوجودي رغم إنني وقفت أمامه لدقائق عدة لأتأكد من أنه هو صاحبي، فانتبه لوجودي أولاً، ثم بعد أن استجمع نفسه وعقله وأعمل ذاكرته انتبه لشخصي، فهبّ واقفاً يعانقني، كان سلاماً حاراً، ولكن لم تكن مفاجأة اللقاء وصداقتنا القديمة هي سبب دموعه المنهمرة بغزارة وعبراته المكتومة التي لم تدعه يتكلم لفترة من الزمن. 

وحينما هدأ وجلسنا نحتسي القهوة، سألته عن حاله وما الذي جاء به إلى اسبانيا، فاغرورقت عيناه مرة أخرى فأشفقت عليه وقلت له سأعفيك من الإجابة مادام ذلك يؤلمك لهذا الحد، فقال لا، بل لابد لي من أن أفضفض عما في نفسي والحمد لله انني وجدتك، وعلى غير موعد، فلعل الله بعثك لتكون دليلي فيما أنا فيه ولعلك تكون ناصحي أو أقله تحمل عني بعض الهم فيما أحكي لك مأساتي.

وبينا كنا نمشي بخطىً متثاقلة في جادة «بلازا دي اسبانيا» كان هو يتصبب عرقا – رغم أن الجو كان جميلاً ولم تتعد درجات الحرارة الـ 25 درجة- أي كان ربيعاً بالنسبة لنا نحن السودانيون – وهو يحكي قصة عمرها عشرون عاماً: 

(كانت البداية العطلة الصيفية لعام 1976م وكنت قادماً من مقر دراستي الجامعية بالمغرب، ميمماً وجهي شطر الفردوس المفقود -الأندلس- مستلهماً قصيدة طارق بن زياد التي كانت مقررة علينا في المرحلة المتوسطة لو تذكر: 

البحر خلفي والعدو إزائي ضاع الطريق إلى السفين ورائي

فتلفتوا فإذا الخضم سحابة حمراء مطبقة على الأرجاءِ

***

وأتى النهار وسار فيه طارقٌ يبني لملك الشرق.. أي بناءِ)

     وأردف مواصلاً (وتلفتُ فوجدت البحر خلفي والأندلس إزائي وأنا أبحر عبر مضيق جبل طارق.. وبدأت أردد أبيات من تلك القصيدة الرائعة.. 

والشوق يحدوني توجهت إلى غرناطة التي وجدتها مدينة عربية إسلامية كأن بني الأحمر تركوها بالأمس القريب، قصورهم كما هي بزخارفها ونوافيرها وأُسودها الإثني عشر الرابضة في البهو الذي يعرف باسمها «بهو الأسود» في قلب قصر الحمراء، تدفع المياه عبر أفواهها لضبط الوقت، أي أنها ساعة. 

وتجولت داخل قصر بني الأحمر ووجدتني أنقل على دفتري ما خطه أجدادي على جدران غرف القصر وساحاته، ولفت هذا الأمر نظر السياح غير العرب – ولم يكن هناك من بني يعرب بن عدنان أو الناطقين بلغته غيري – واستغربوا قراءتي وكتابتي للغة مكتوبة منذ سبعمائة عام، واستفسرني كثيرون منهم إن كانت تلك الكتابة ما تزال مستعملة إلى الآن أم أنها مثل الهيروغليفية قد اندثرت وبالتالي يكون من يقرأها ويكتبها عالم آثار؟ وكنت فخوراً وأنا أشرح لهم أن تلك المكتوبة منذ سبعة قرون هي نفس اللغة التي نستعملها اليوم. 

وصرت دليلاً سياحياً من غير أجر، أجري الفخر والإعتزاز بأنني حفيد من كتب على هذه الجدران منذ سبعمائة أو ثمانمائة أو ألف عام، كذلك كشف ما يغيب عن هؤلاء من ماضي أجدادي التليد.. ورأيت الإعجاب في عيونهم.

ورأيت إعجابين في عيونها.. كانت من بلاد العم سام، وكانت عندما ينصرف القوم إلى قاعة أخرى أراها لا تنصرف معهم بل تتعمد أن تكون قريبة من مكان تواجدي، ثم صارت تبتعد عن والديها قليلاً قليلا لتقترب مني حتى غافلتهم.. وصرت دليلاًً سياحياً لها وحدها.. 

ابتعدنا عن قصر الحمراء ومشينا في حواري حي البياسين (أي «البائسين» أو «البيتين»)، كل الدور هنا على الطراز الإسلامي، بقيت على حالها منذ أيام بني الأحمر، فقط تغير ساكنوها.. وتساءلت وقتها ترى أين كان يلاقي بن زيدون حبيبته ولادة بنت المستكفي؟ أفي هذا الدرب أم ذاك؟ وصرتُ «بن زيدونها» وأصبحتْ «ولاّدتي».. وأضحى التداني بديلاً عن تنائينا.

ووجدنا أنفسنا وسط حدائق غناء وارفة الأشجار، مخضرة العشب، خرير جداولها موسيقى حالمة، حكيت لها عن حضارة المسلمين في الأندلس والنعيم الذي كانوا يعيشونه ولياليهم وجواريهم و… وكان ذلك منذ ثمانية قرون خلت! كانت حالمة وسط هذا الجو الرومانسي.. وازداد إعجابها بحضارة أجدادي.. وبأحد أحفادهم.

حينما بدأ الليل يرخي سدوله كنت دليلها السياحي وشيء آخر، لم أعد أشرح لها تاريخ أجدادي، فقد بدأ الصمت يتكلم، وتلاقت أكفنا، وجلسنا على إحدى الكنبات وسط ذلك السحر الخلاب.. وخف المكان من المارة رويداً رويدا حتى لم يبق في «جنة العريف» إلا فتىً من قلب إفريقيا وصبية من بلاد تمثال الحرية.. سألتها عن عمرها قالت خمن! قلت ثمانية عشر، تسعة عشر، قالت بل خمسة عشر، لم أصدق، كانت طويلة القوام مكتملة الأنوثة، وخفت عليها من نفسي وخفت على نفسي منها.. لكنه لم يعد ثمة مجال للتراجع.

اضطرب أسفل جوفي وسرت برودة في أطرافي وبدأ صوتي يرتجف، وأحست هي ببرودة أطرافي حينما عانقت أناملها أصابعي، لم تستطع أن توقفني لأنها لم تستطع أن تسيطر على نفسها، ولم يكن هناك من يردعنا كلانا فقد خلت «جنة العريف» تماماً من البشر خلانا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *