
سارة عبدالمنعم
كاتبة روائية
• لم يكن هناك في ذلك الصباح أكثر عنادًا من خطواتي الهائمة في غرفتي الصغيرة، التي تنام وتستيقظ على صوت طيور البحر وأناشيد العصافير، غرفة عند غربة يقال إنها قريبة من بلادي.
انشغلت بالجلوس حين لمحت الملل أثقل خطواتي. ظننت أن الجوع الذي نمت به هو ما أيقظني قبيل الفجر، كطفلة صغيرة اقتنعت قدماها بفكرة الاستراحة، فطلت أظافرها باللون الوردي الغامق. عشق أمي لذلك الطلاء جعلني أقتنيه لنفسي من أجلها.
لم يكن هناك أكثر عنادًا من جمرة تنتعش بأنفاسي وأنا مرغمة على ذلك، يصيبني أحيانًا الدوار ويقل تقبلي لتوازي زفيري وشهيقي، والكحة التي تكاد تخطف أنفاسي. لا توقظ الجمرة حد صراخها بالاشتعال حين انشغلت عنها بطلاء أظافري، فرمقتها تخمد توهجها عمدًا، تكاد الانطفاء حين يزوغ منها البصر، وأحيانًا تشتعل في كل شيء تلمسه قريبًا لها دوننا.
الجمرة أكثر من يعاند إن تغافلنا عنها، مثل الفتيات، يكدر صفو توجهها فقدان الاهتمام والاعتناء بها كي لا تحترق بالغياب وتأكلها الوحدة.
تركت أظافري لأنفاسي كي يجف الطلاء، ودهنت أصابعي بزيت جوز الهند. أنا معجبة برائحته؛ شعري أيضًا يسود به وتلتف الخصل تحويه في انسجام وجمال.
الجمرات التي أوقدتها من أجل عطر البخور هي التي رفضت الاشتعال رغم محاولة استعنت فيها بشعلة غاز الفرن، وبهواء مروحة كان أقوى من رئتيّ، وبهواء شباك يفتح ذراعيه نافذة تطل على نسمات البحر وضيا ءالشمس وعصافير الصباح تشارك صوتي الدندنة وعزف الصفارة مع أو خلف صوت العطبراوي الشهي. قهوتي وبخوري وطلاء الأظافر شغلتني الجمرة عنهم بعد أن لمحت انشغالي بهم عنها.
تركت كل شيء وهمست لها بأني أحب منها أن تحرق من أجلي أعواد بخور الصندل، فيتيقظ حلاوة مزاجي والشهيق. عطر الصندل أراه أكثر ما يثير فينا غريزة البقاء منتعشًا، لا يفارق المسام ولا يبتعد عن صاحبه ويشعره بالسكينة. نحتاج دائمًا لصندل الحياة في قلوبنا، وفي عبقه تتماهى الأفكار.
حدثت الجمرة بنفاد صبري أنه ليس من الجيد أن ترغمني على إشعالها بهذا التعب وأني قد مللت، ويمكنني الاستعانة بقداحة ذهبية شعلة تشتعل بالخطر؛ الأحمر المشتعل فيها يميل أكثر لرأس الشعلة الحارقة، سيخرج رائحة الصندل من عود يحترق فتحيا به الغرفة وملابسي ومسام شهيقي والزفير.
وجدت خطواتي تهم بفتح النافذة التي أغلقت من أجل عطر البخور، فنهرْتها للتوقف؛ فالجمرة لم تشتعل، فعلام تطرد روائح البخور خارجًا؟ الوقت الآن ليس للشمس، فخطوط النهار بدأت تنسل من بكرة الصباح.
استأذنت العطبراوي في عودتي بعد قليل بكامل الاكتراث لسماع شجوه بالبلاد والحرية والحب والشوق والعتاب ووجع الرحيل وتعنت الأيام ومنع الأحبة. خطواتي بعثرت بصماتها على الممر كثيرًا، ولأني مرهقة من الانتباه لكل أشيائي وتشذيبها إن انفلتت، أصاب كثيرًا بالأرق. لكن حركتي الدائمة في توظيف الأشياء وصمتي في فهم حالاتها المزاجية ومقاصدها الخفية تجعلني دائمة الود مع كل حالات يومي.
فتعلمت أن أوجد للحياة وما فيها العذر طمعًا في ألا أتخلى عنهم من أجل خطأ ربما كان له وجه حسن آخر لديهم. لا أحب الظنون التي تقلل من مكانة أحدهم في قلبي، أتجاوزها قدر المحنة؛ فهناك الكثير من الجمال فيهم، لهم العذر وكفى، فلسنا سوى هفوات وأخطاء مكررة الأفكار والطباع إلا قليلاً.
المهم أن الجمرة غازلتني فجأة بالصلح، فالتهب جبين المبخرة بالسخونة، وتطاير الشرر، واحتفلت الغرفة وأنفاس الصندل باللقاء، فتنسمتهم ودًا فعانقوني لطافة ومؤانسة. شذبت خصلاتي للوراء وعاد اللحن لإنصات خافقي. قهوتي أجلست وعاءها الفضي على سطح نار المبخرة، لمحتها تهتز طربًا وتغلي، فهّأت لها ملامحي وكحّلت لها العين وطلّيت الأظافر والشفاه، وأجلست خطواتي وأقنعتها أن هذا الوقت للسكون والتمتع بنكهات الأشياء ومقاسمتها المزاج.
هممت بالقيام معها حين أخبرتني أنها تخشى الهدوء الذي يثرثر فيه رأسي بألف فكرة مرهقة أكثر من رهق السير وتوهان الوجهة، لنهرب قدر المستطاع. لكن جلست خطواتي حين أقسمت لها أني سأمضي بها بعيدًا عن تلك الأفكار إن وجدت المفر.
تمايلت في جلوسي رقصًا وجلست أشغل أفكاري باللحظة، جاهدت للهدوء قليلًا، وعادت تخبرني أنها تفكر في أن تلتقي بالحرف، وهذا من باب أنها مثل الجميع تملك مزاجها المنشغل بالحوار كي لا أجن بالحديث مع البشر، فربما عن قلبي يومًا سيرحلون. ومنذ رحيل بلادي لم يعد قلبي يحتمل المزيد من الفراق وقلة الرفاق.
الجمرة لم تنطفئ، ساومتني بأن أظل مثلها قبل أن أهز رأسي بالرفض، فأومأت بالموافقة. أفكاري هي من حدثتني أني قادرة على إشعال الحياة بعطر الصندل إن لم يتخلّ عني الصباح وفنجان القهوة وغرفتي الصغيرة في أرض بلادي، والفحم الذي حين نشعله يبادلنا التقدير فلا ينطفئ.
ولكم ندمت على كل مرة جنيت عليه فيها بكوب ماء يخمد اشتعاله ويبرد جسد الجمرات ويلفظ الدخان أنفاسه. حقًا، الرماد ليس سوى اللون أو الشعور الذي يُنسب لكل ما يفقد التوهج، لكل خامد بموت الحياة فيه، لكل الرؤى الضبابية صوب الغد؛ فالآن صار يحرقنا ولا رائحة عطر صندل تنبعث.
شارك المقال