جنوب النص : قراءة في تضاريس القصيدة السودانية المعاصرة  2-3

2
عبدالقادر جبار

بقلم: د. عبدالقادر جبار

• تعتقد المناهج السياقية  في النقد الأدبي ان النص لا يمكن دراسته إلاّ من خلال العوامل الخارجية المؤثرة في المبدع وانتاجه ، وأضاف لوسيان غولدمان لهذه المناهج مجموعة من التصورات الفلسفية والنقدية التي تحاول الافادة من الاتجاهات السياقية والنصية معا ، فطرح مفاهيم ( الفهم والتفسير ، والبنية الدالة ،  ورؤية العالم ) ، ووجد في البنيات الاجتماعية عاملاً حاسماً في ادراك الابداع وذلك من خلال قدرة المبدع على تمثيل فئته الاجتماعية  ولم يخرج النقد الحديث عن تلك المناهج وفي أحسن الأحوال المنهج البنيوي التكويني، لذلك تراوحت معظم الدراسات التي فحصت حركة الابداع في السودان بين المناهج السياقية والتكوينية من خلال ربط الفعالية الاجتماعية بالفعالية الفنية الابداعية وعلى هذا الاساس وجدت تلك الدراسات  أن  السودان مر بمراحل تاريخية انعكست في الادب السوداني عامة والقصيدة السودانية بصفة خاصة لأن  القصيدة السودانية لم تكن عبر تاريخها الطويل بمعزل عن مجمل التطورات السياسية والاقتصادية  والاجتماعية والفكرية في تلك البلاد ، وقد تبنى هذه الآراء  عدد من الباحثين  ومنهم  الدكتور حسن عباس صبحي والباحث أحمد أبو سعد ، والدكتور مصطفى هدارة والدكتور عبده بدوي ،  حيث أحالت  تلك الدراسات البنى الداخلية  في القصيدة السودانية إلى العناصر الخارجية أي إلى ( مؤثرات الواقع  فقط ) ونظرت الى كل تطور في القصيدة من خلال البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية ، من دون أن تنظر الى الادراك الجمالي للمبدعين ومحاولاتهم دفع الوعي الجمالي لدى المتلقين للارتقاء الى النص الجديد (نص تجاوز المألوف التقليدي) ،  والقراءات السابقة  يمكن أن تصلح في دراسة النص السوداني في مراحل تموضع التاريخ داخله  ، لكنها لا تؤدي وظيفتها بشكل مقنع في لحظات الانفصال عن التاريخ ومحاولة انتاج بنية مغايرة ، ولكي نسلط الضوء على ثنائية الانفصال والاتصال في القصيدة السودانية ، فعلينا تقديم فرضية مغايرة وهذه الفرضية تقوم على أن الابداع في القصيدة السودانية يكمن في داخل النص الذي يتجاوز المألوف السائد ويتجاوز البنية الاجتماعية للعصر الذي تنتمي إليه ، وسبب تقديم هذه الفرضية يعود إلى  أن قوة ممانعة القصيدة السودانية لخرق الأنماط التقليدية قوية الى الحد الذي لاتسمح به بالتحول والقطيعة بطريقة سلسلة ، وتنبع ممانعة النمط التقليدي من ممانعة الثقافة السودانية لاستلاب عروبتها ودفاعها عن  الأصالة في ثقافتها  في ظل التنوع الامتزاج العربي الأفريقي الذي يعد أهم مصادر البنية الثقافية في تلك البلاد وهذا ما يفسر لنا انغمار القصيدة السودانية في التقليد حتى منتصف الستينات وشحة دعوات التجديد في الفكر النقدي السوداني ، ولكن مع الاشارة إلى أن هذه الممانعة للتجديد لم تمنع التفاعل الحضاري العربي مع الحضارات الاخرى ، ولعل أبرز تلك التفاعلات في البنية الثقافية السودانية يكمن في رسوخ الظاهرة الصوتية التي تستند الى ثلاث ركائز الأولى : الصوفية وما ينتج عنها من طقوس وشعائر يتم تأديتها من خلال الصوت والحركة  ، والثانية :الثقافة الافريقية المعتمدة على الحركة والطبول ، والثالثة : الثقافة والعربية منتجة الايقاع الشعري ، وهذه المصادر الثلاثة جعلت من تحولات الثقافة عسيرة في مجال الايقاع خاصة  ، لأن عملية الخرق والانفصال إذا ما بدأت في تلك القصيدة فان عليها أن تتجاوز الابعاد الثلاثة في الظاهرة الايقاعية في القصيدة السودانية وتتجاوز بعد ذلك التشكيل البصري الذي يتحكم ببنى القصيدة ، وهذا الاجتياز يستلزم انفصالاً عن المؤثرات الثلاثة التي أشرنا اليها ، لذلك تميزت القصيدة السودانية حتى  منتصف القرن العشرين بوضع شبه (استياتيكي)  لما تحمله من أثر عميق من المكون الثلاثي لبنيتها الصوتية  ، وقد ساعدت بيئة الشعب السوداني الحاضنة والتي تمتاز بالانفتاح على المحيط الاقليمي بتفعيل ظاهرة الصوت ، مثلما ساعد التاريخ السوداني على تكريس التقليد في بناء القصيدة العربية ، وفي مجال اللغة فان مهمة  الحفاظ على اللغة العربية كانت واحدة من أهم الدوافع التي حركت الشعب السوداني نحو العمل على تنقية لغته مما يمكن أن يصيبها من هجنة غريبة ولهذا كانت اللهجة السودانية أقرب اللهجات إلى العربية الفصحى ، وكانت القصيدة السودانية أبطأ الأنماط في تحولات لغتها وعصرنتها ، وإذا كان الضغط التاريخي والجغرافي قد لعب دوره في الحفاظ على بنية التقليد فهذا لم يمنع وجود مبدعين كبار جددوا في القصيدة العربية في السودان ، ولم يمنع في الوقت نفسه وجود شعراء كبار حاولوا التجديد في النمط التقليدي من الداخل ، ويمكن أن يكون التلقي عاملاً مؤثراً في الحفاظ على بنية القصيدة التقليدية مثلما يمكن أن يكون الوعي الجمالي عاملاً حاسماً في استقبال النمط الشعري  ، لهذا نجد أن اشكالية الدراسات التي تناولت القصيدة السودانية الحديثة والمعاصرة تكمن في الضغط التاريخي الباحث عن ايجاد تواصل بين نمط وآخر في تطور الشعر ، وقد حجب ذلك الضغط رؤية النقاد لمراحل القطيعة وتقنياتها في القصيدة السودانية ، ففي دراسة الدكتور . عزالدين اسماعيل مثلاً وجد أن الفيتوري لم يخرج في ديوانه (اغاني افريقيا ) على التقليد على الرغم من محاولته التجديد واستند في ذلك إلى  قراءته الايقاعية لقصيدة الفيتوري ( امرأة عاشقة ) التي يقول فيها :

لا 

..لم يكن وهماً هواك

  ولم يكن وهماً هواي

  ان الذي حسبته روحك 

 قد تبعثر في خطاي

 ما زال طفلاً صارخاً  

جوعان يرضع من دماي

   وقد اعاد الدكتور اسماعيل تشكيلة النص البصرية  بما يناسب البنية الايقاعية التقليدية وعلى النحو الآتي :    لا لم يكن هواك ولم يكن وهماً هواي 

 ان الذي حسبته روحك قد تبعثر في خطاي 

 مازال طفلاً صارخاً جوعان يرضع من دماي

 ويكون الدكتور عزالدين اسماعيل في هذا التشكيل المفترض قد حرم النص من ريادة التجديد ، وأغلب الظن انه تأثر بموقف الدكتور احسان عباس القائل ان الفيتوري لم يتجه الى الشكل الجديد الاّ في ديوان اذكريني يا افريقيا الذي صدر بعد ديوان اغاني افريقيا ، وبذلك أصبحت هناك شبه قناعة مستقرة لدى النقاد أن القصيدة السودانية استمرت في بنيتها التقليدية في ديوان (أغاني أفريقيا ) ، والحقيقة غير ذلك ، لأن الدكتور عزالدين  اسماعيل وقبله الدكتور احسان عباس لم ينظرا الى التدوير الذي أحدثه الفيتوري في بنية القصيدة الايقاعية بين (هواك \ في نهاية السطر الاول،  ولم يكن \ في بداية السطر الثاني)، (وروحك \ وقد تبعثر ) كما لم يدرسا أثر البنية البصرية الجديدة في تحولات الايقاع والتنغيم والانشاد في الوقف والاستمرار والصمت وهي تحولات مهمة في بنية القصيدة السودانية ، وكان على  الدكتور عز الدين اسماعيل في  تحليله  أن يتنبه الى بنية التدوير الايقاعي الذي كان الفيتوري رائداً فيه وأحدث من خلاله قطيعة مهمة مع استمرارية النمط فالعلاقة بين السطر والسطر في القصيدة علاقة تدوير  ، ولم تكن هذه العلاقة الايقاعية منتشرة في تلك المرحلة إلاّ بعد أن رسخها الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر بعد منتصف الستينات ، واعتقد أن رأي الدكتور اسماعيل استند الى استنتاج الدكتور احسان عباس الذي أشار فيه الى عدم وجود تجديد في شعر الفيتوري حتى عام 1964 ، والحقيقة أن محاولة الفيتوري في تلك القصيدة كانت بداية راسخة لمرحلة القطيعة مع الموروث خاصة في علاقة نهاية السطر الشعري بالقافية التي تنتهي التفعيلة الأخيرة بها ، من هنا يمكن القول أن عملية التجديد في الشعر السوداني الحديث والمعاصر تعرضت الى ظلم كبير ، وكانت وما زالت لم تأخذ دورها الحقيقي في الخريطة الشعرية العربية كما ينبغي أن تكون عليه  ، وهذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه في دراسة لاحقة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *