

تقرير: طارق عبدالله علي
• على ضفة النيل، ترقد «تنقسي» كلوحة فنية ساحرة. هذه الجزيرة الوادعة التي تقع في الولاية الشمالية بالسودان، تعد من أكبر الجزر في محلية الدبة. تُغطّي أشجار النخيل مساحات شاسعة من أراضيها الزراعية الخصبة، في منظر بديع يأسر الألباب، يبلغ طول الجزيرة 17 كم وعرضها 3 كم، ومساحتها الإجمالية 51 كم². تعتمد المنطقة بشكل رئيسي على الزراعة، حيث تُزرع محاصيل مثل التمور والقمح والذرة والخضروات. وتضم الجزيرة إنجازات حضارية مثل مستشفى الوفاق القطري، الذي يُعتبر من أكبر المستشفيات تميزاً في الولاية الشمالية، ويقصده المواطنون من كل القرى المجاورة للاستفادة من خدماته الطبية المتميزة.

منجم للعقول النيرة
أنجبت تنقسي شخصيات بارزة في مجالات متعددة علي سبيل المثال لا الحصر:
الطب والأكاديميا: البروفسور عمر بليل مدير جامعة الخرطوم والطبيب العالمي لأمراض الكلى والمسالك البولية الذي أجرى ثاني عملية زرع كلية في العالم العربي، البروفسور ساتي ميرغني قيلي من جامعة السودان، والبروفسور يوسف عبد الرحيم مدير جامعة التقانة العسكرية، والبروفسور محمد حسن سناده المدير الأسبق لجامعة وادي النيل.
الهندسة والإدارة: المهندس عبد العظيم محمد حسين أفندي المدير الأسبق لمشروع الجزيرة، والمهندس عمر البكري.
الرياضة: أبو حراز الرئيس الأسبق لاتحاد كرة القدم، والدكتور كمال شداد رئيس اتحاد كرة القدم السودانية، والمعلق الرياضي سوار الذهب، والكابتن محي الدين الديبة، والكابتن عبدو مصطفى، والحكم الدولي الطاهر محمد عثمان بله.
الأدب والفن: الروائي حمور زيادة، والشعراء محجوب شريف، وصابر عبد الله صابر، وضرار محمد ضرار. ومن الفنانين إسحق كرم الله، ومحمد كرم الله. كما قدمت الجزيرة اثنين من الصحفيين المعروفين: جمال إسحق سمل وزاهر الكندري.
والجدير بالذكر أن الشاعر الكبير «إدريس جماع» قد درس بمدرسة تنقسي الأولية عام «1941»م الذي جاء إليها تابعاً لوزارة المعارف السودانية بعد تخرجه مباشرة من معهد معلمي المرحلة الأولية ببخت الرضا، وخلال إقامته بتنقسي معلماً كتب الشاعر الكبير إدريس جماع عام «1942»م قصيدته الشهيرة «أعلى الجمال تغار منا…» بمنطقة تنقسي السوق.


سحر المكان وعذوبة الحكايات
تشتهر تنقسي بأسلوب حياة تقليدي يتسم بالتعاون والتكاتف. لطافة أهلها ودفء حكاياتهم يملأ الأماكن بالأصالة والود، يمتلكون طلاقة في التعبير وذكاءً فطرياً يظهر في أحاديثهم ونكاتهم. وقد أرجع أحد الأطباء هذا الذكاء إلى ثمرة النخيل التي تُسمى الرُّطَب، موضحاً أنها تغذي خلايا الدماغ أكثر من سائر أعضاء الجسد.
هذه البيئة الغنية ثقافياً منحت أهلها طلاقة وثراء في لغتهم، فحديثهم عذب وسلس كقوافي شعرائهم.

تنقسي: سجل حي لحضارة عريقة
تُعد جزيرة تنقسي من أغنى المناطق السودانية بآثار حضارة النوبيين، حيث تنتشر فيها مواقع أثرية عديدة، بعضها خضع للتنقيب والعمل، وبعضها الآخر غطته الرمال بسبب الزحف الصحراوي. ووفقًا لما ذكره الصحفي عبدالله الشيخ في تقريره عام «2014»م، فقد كان لفيضان النيل عام» 1988»م، تأثير كبير، حيث طمر وجرف معالم أثرية ثمينة مثل «القحاف» و»الأزيار» التي يعتقد أنها تعود لعصور موغلة في القِدم.
كشفت البعثات الأثرية المتعددة، وأبرزها البعثة البولندية، عن مكتشفات كبيرة ومهمة. لكن هذه الكنوز ما زالت تفتقر إلى اهتمام رسمي، بينما تُعرض مقتنياتها في متاحف عالمية.

مـن أبـرز المواقـع الأثريـة في تنقسـي:
موقع بنغنارتي الأثري:
وفقًا للباحث الرئيسي بوجدان زوراوسكي من أكاديمية العلوم البولندية، شهدت إحدى كنائس بنغنارتي زيارات من حجاج من العصور الوسطى. ودليل ذلك نقش على جدار إحدى الكنائس لرجل كتالوني يُدعى «بينسك» (Benesec) نصه: «عندما جاء بينيسك لتكريم رفائيل». ويُعتقد أن النقش يعود إلى القرن الثالث عشر أو الرابع عشر.
موقع سلب الأثري:
يقع على بعد أميال قليلة شرق بنغنارتي، وقد بدأ العمل فيه بين عامي 2008 و2010. يضم الموقع أربع كنائس يعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي. ومن أبرز المكتشفات فيه بقايا أعمدة ونقوش مروية تعود إلى حوالي 2000 عام، ومعمودية يعود تاريخها إلى 1500 عام. كما عُثر على نقش يُشير إلى أن الملك زكريا أهدى إحدى الكنائس للقديس مينا، ونص النقش: «زكريا باسيليوس مينا هاجيوس». كما وُجدت بئر بعمق خمسة أمتار مزخرفة بشكل مدهش.
موقع حلة تنقسي الأثري:
في تلة عالية بـ»حلة تنقسي» توجد أنقاض معبد نوبي تحت المسجد الحالي. لم يتم التنقيب في الموقع بسبب حساسية المكان لدى الأهالي، وقد توقف قائد البعثة البولندية بوجدان زوراوسكي عن العمل فيه احتراماً لذلك. يتبقى من الموقع هيكل جدار مبني بالطوب الأخضر، وهو بحاجة ماسة للترميم والصيانة.

تنقسي: دنقلا التاريخية ومحطة دينية
في حوار أجريته معه في عام 2021 لصحيفة أخبار اليوم، يرى المفكر حسن أحمد صالح أن تنقسي هي دنقلا التاريخية، وقد شهدت أحداث عظيمة. فبحسب ما جهزه للعرض في كتابه «مملكة المقرة النوبية وعاصمتها الحقيقية» الذي تعثرت طباعته بظروف الحرب، استقبلت تنقسي «القديس متى» صاحب «إنجيل متى»، كما استقبلت مهاجرين مسلمين في هجرتهم إلى الحبشة. ويقترح صالح أن يتم تشييد بيوت نوبية تقليدية في تنقسي لتكون أماكن إقامة للسياح، تُقدم فيها الأطعمة التراثية بملابس نوبية أصيلة، مما يجعلها ظاهرة ثقافية جاذبة. كما يؤكد على أهمية استغلال هذا الإرث الحضاري الضخم، الذي يفوق ما لدى دول مثل مصر واليونان والأرجنتين من موارد سياحية، ليكون مصدر دخل كبير للسودان. ويضيف أن الإنسان هو صانع الحضارة التي تُبنى عليها الأوطان، وأن الاهتمام الرسمي بالتراث الحضاري لا يزال ضعيفاً، رغم أن المتاحف الأوروبية والأمريكية تزدحم بالآثار السودانية.

ختامـاً ، ليست تنقسي مجرد جزيرة هادئة على ضفاف النيل. إنها لوحة حية تجمع بين جمال الطبيعة وعبقرية الإنسان، وسجل مفتوح لحضارات تعاقبت على أرضها. تقف آثارها اليوم، حجارة ونقوشاً، كشواهد صامتة تروي حكايات أعمق من أن تُنسى. وما كُشف من كنوزها حتى الآن ليس سوى نداء مفتوح لكل مهتم بالهوية والثقافة، للتحرك وحمايتها وتوثيقها، لتبقى «تنقسي» منارة تضيء تاريخ السودان العريق، ولئلا تبتلعها رمال النسيان إلى الأبد.
شارك التقرير