جدلية الحكم في السودان: مراجعة سياسية وعسكرية من 1956 إلى اليوم
Admin 19 يوليو، 2025 39
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• منذ نيل السودان استقلاله عن الاستعمار البريطاني-المصري عام 1956، دخلت البلاد مرحلة جديدة مليئة بالآمال، غير أن هذه الآمال كثيرًا ما اصطدمت بواقع سياسي هش، واقتصاد هش أكثر، ومجتمع متعدد وممزق لم يجد عقدًا اجتماعيًا يربطه بشكل عادل. عانى السودان على مدى أكثر من ستة عقود من تعاقب الأنظمة المدنية والعسكرية، ومن انتكاسات تنموية، ومن حروب أهلية وانقلابات متكررة، كلها جعلت من حلم بناء دولة مستقرة ومزدهرة أمنية بعيدة المنال.
إن تقييم الأداء السياسي والعسكري منذ الاستقلال ليس مراجعة شكلية للتاريخ، بل هو قراءة تحليلية لعلل البنية السياسية السودانية، ولتجربة كان يمكن أن تكون نموذجًا في أفريقيا والعالم العربي، لكنها تحوّلت إلى واحدة من أكثر التجارب تعقيدًا وتقلّبًا، نتيجة تراكم الأزمات وفشل النخب في بناء مؤسسات حقيقية.
البدايات: دولة تنشأ على أسس ضعيفة
في سنوات ما بعد الاستقلال، واجه السودان تحديات التأسيس من دون بنية مؤسسية قوية أو توافق وطني حقيقي. كانت الأحزاب السياسية قائمة على أسس طائفية أو جهوية، غير قادرة على تمثيل كل أطياف المجتمع السوداني، وكان الجنوب يشعر بالتهميش منذ البداية، ما أطلق أولى شرارات الحرب الأهلية عام 1955، أي قبل إعلان الاستقلال رسميًا.
لم يكن هناك مشروع تنموي موحد، ولم تُقدَّم رؤية واضحة حول شكل الحكم أو توزيع الثروة، فدخلت البلاد مرحلة التجريب السياسي، وتكررت التجارب الديمقراطية القصيرة التي أجهضتها انقلابات عسكرية لاحقة، دون أن تُمنح الفرصة الكاملة لتتطور.
الحكم العسكري: وعود بالاستقرار تتحول إلى أزمات
شهد السودان ثلاثة عهود رئيسية من الحكم العسكري: عهد الفريق إبراهيم عبود (1958–1964)، وعهد المشير جعفر نميري (1969–1985)، وعهد المشير عمر البشير (1989–2019). في كل مرة كان الجيش يتدخل بحجة إنقاذ البلاد من الفوضى أو الانقسام السياسي، ويبدأ الحكم ببرامج إصلاحية وشعارات وطنية، سرعان ما تتحول إلى أنظمة قمعية، تسيطر على الإعلام، وتُهمّش الأحزاب، وتفرّغ المؤسسات من مضمونها.
تحت حكم البشير على وجه الخصوص، أُسس نظام إسلامي شمولي، دمج بين العسكر والحركة الإسلامية، وخلق شبكة مصالح اقتصادية وأمنية حالت دون أي تغيير داخلي. وكان من نتائج هذا النظام تقسيم البلاد في 2011 بعد حرب دامت أكثر من عقدين، إضافة إلى أزمات في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.
النظم المدنية: ديمقراطيات قصيرة العمر
رغم أن الشعب السوداني أطاح بالعسكر في ثلاث ثورات شعبية (1964، 1985، 2019)، فإن الأنظمة المدنية التي أعقبت كل ثورة لم تستمر طويلًا. ضعف التجربة الحزبية، وانعدام التنسيق بين مكونات التحالفات المدنية، وغياب مشروع وطني واضح، كانت عوامل رئيسية في فشل هذه الفترات الانتقالية. كما أن القوى المدنية كثيرًا ما اصطدمت ببقايا الدولة العميقة، أو وقعت فريسة التدخلات الإقليمية والدولية، أو فتّتها الانقسامات الأيديولوجية، فكانت عاجزة عن ممارسة الحكم بفعالية، ما فتح الباب مجددًا لعودة العسكر.
الاقتصاد: الثروة في خدمة المركز لا الوطن
منذ الاستقلال، لم يُتبنَّ نموذج اقتصادي يحقق توزيعًا عادلاً للثروات. فقد ظل الاقتصاد السوداني معتمدًا على الزراعة التقليدية والثروات الطبيعية، من دون تنمية حقيقية في الأقاليم. وكانت غالبية الموارد تُستثمر في المركز، بينما تعرّضت المناطق الطرفية مثل دارفور، وجنوب كردفان، وشرق السودان، وحتى أقصى الشمال، إلى التهميش المستمر.
وبعد اكتشاف النفط في التسعينات، تحوّلت البلاد إلى اقتصاد ريعي يعتمد على عائدات النفط التي استُخدمت في التسلح والإنفاق السياسي بدلاً من التنمية. وبعد انفصال الجنوب، خسر السودان جزءًا كبيرًا من هذه العائدات، وواجه تضخمًا وانهيارًا في العملة، وفقد الثقة في النظام المالي، مع ارتفاع الديون الخارجية، وانهيار الخدمات الأساسية.
الحركات المسلحة: بين المقاومة والانقسام
ظهرت الحركات المسلحة كرد فعل طبيعي على التهميش السياسي والاقتصادي. فالحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تأسست عام 1983 بقيادة جون قرنق، رفعت شعارات الوحدة على أساس جديد، لكنها قادت في نهاية المطاف إلى الانفصال. وفي دارفور وشرق السودان، ظهرت حركات أخرى طالبت بالعدالة وتقاسم السلطة والثروة. لكن هذه الحركات أيضًا تعرّضت للانقسامات، وللاتهام بالتبعية للخارج أو بتحقيق مكاسب شخصية من خلال اتفاقيات جزئية. ورغم توقيع بعض هذه الحركات على اتفاق جوبا للسلام في 2020، إلا أن الاتفاق لم يُطبق فعليًا بسبب هشاشة السلطة الانتقالية، واستمرار التوترات بين العسكر والمدنيين، وغياب إرادة تنفيذية حقيقية من جانب الدولة.
لجان المقاومة: أمل التغيير من القاعدة
من أبرز ملامح ثورة ديسمبر 2018 بروز لجان المقاومة، وهي كيانات شبابية، قاعدية، غير حزبية، استطاعت تحريك الشارع، وتنظيم المواكب، وإسقاط النظام. لكنها واجهت صعوبات بعد الثورة في الانتقال من الفعل الثوري إلى العمل السياسي المؤسسي، خصوصًا بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد العسكر إلى صدارة المشهد.
ورغم ذلك، لا تزال لجان المقاومة تُشكّل عمقًا شعبيًا مهمًا، وتحمل رؤية جديدة لمفهوم الحكم والمشاركة، تختلف عن الأحزاب التقليدية، ما يجعلها أحد مفاتيح التغيير في المستقبل، إذا ما تمكنت من التنظيم وصياغة برامج واضحة ومؤسسات فاعلة.
الدعم المصري للجيش السوداني: أبعاد إقليمية وتأثيرات مباشرة على التسوية
من بين أبرز الفاعلين الإقليميين الذين كان لهم دور مباشر في الأزمة السودانية، تأتي الحكومة المصرية في مقدمة القوى الداعمة للمؤسسة العسكرية السودانية. ففي اجتماعات «الرباعية» (واشنطون، الرياض، أبو ظبي، القاهرة)، اقترحت الولايات المتحدة إشراك قيادات مدنية من الحكومة التي أطاح بها انقلاب البرهان في أكتوبر 2021، وعلى رأسهم عبد الله حمدوك، غير أن القاهرة اعترضت على الفور.
وأصرت الحكومة المصرية على أن يكون الجيش السوداني – ممثلاً بقياداته الحالية – طرفًا رئيسيًا في أي نقاش حول التسوية، رغم أن بعضهم يخضع لعقوبات أميركية. هذا الموقف يعكس رؤية استراتيجية تتبناها مصر، ترى فيها أن استقرار السودان لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المؤسسة العسكرية التي تُعتبر أقرب إلى توجهات القاهرة الإقليمية، خاصة في قضايا الأمن القومي وسد النهضة. لكن هذا التوجه أثار حفيظة قوى الثورة المدنية في السودان، واعتُبر تدخلاً سلبيًا في مسار التحول الديمقراطي، وعرقلة للجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى تحقيق تسوية متوازنة وشاملة. ويُبرز هذا التدخل المصري أن مستقبل السودان لا يصنعه الداخل فقط، بل تحكمه أيضًا حسابات الجغرافيا السياسية والصراعات الإقليمية.
الدور الدولي: ازدواجية المعايير وتراخي الوساطات
أما على الصعيد الدولي، فقد تميز موقف القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتذبذب والتأخر. فرغم إدانتهم للانقلاب، لم تُمارس ضغوط فعالة ومستدامة على المجلس العسكري. كما أن الدعم الاقتصادي ظل مشروطًا بإصلاحات لم تُنفّذ، ما أضعف تأثيرهم على مجريات الأحداث.
وفي المقابل، استغلت دول أخرى مثل روسيا والصين حالة الارتباك هذه، لتعزيز وجودها في السودان عبر اتفاقيات تجارية وعسكرية، ما زاد من تعقيد التوازنات الإقليمية.
آفاق الخروج من الدائرة المغلقة
لقد أظهرت التجربة السودانية، منذ عام 1956، تداخلًا معقدًا بين التحولات السياسية والعسكرية، إلى جانب انعكاسات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتأثيرات إقليمية ودولية واضحة. وقد واجهت كل محاولة للتغيير سياجًا كثيفًا من المصالح المتصارعة، سواء داخل النخبة السياسية أو بين القوى الإقليمية، مما جعل مسار الانتقال السلمي والديمقراطي يتسم بالتعرج والتقطع، بدلًا من الاستمرار والاستقرار. ورغم هذا الإرث الثقيل من الانقلابات والأزمات، فإن ثورات أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018 قد أثبتت قوة الإرادة الشعبية السودانية، وقدرتها على الزحف نحو الحرية والعدالة. ولجان المقاومة الحالية تمثل أملًا جديدًا في إعادة تشكيل الوعي السياسي، إذ تعبّر عن رفضٍ لطريقة العمل التقليدية، وتدعو إلى مشاركة أوسع وأعمق من القاعدة إلى القمة.
إن الخروج من هذه الدائرة المغلقة يتطلّب اليوم:
1. إعادة بناء مؤسّسات الدولة على أسس تكافؤ الفرص، وضمان فصل حقيقي بين السلطات المدنية والأمنية، وخلق آليات محاسبة شفافة.
2. إطلاق مسار اقتصادي جديد يتبنّى تنمية متوازنة للأقاليم كافة، ويعوّض سنوات التهميش بالفُرص التنموية، ويشجّع الاستثمار المحلي والأجنبي المشروط بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية.
3. استراتيجية أمنية شاملة تعالج جذور النزاعات المحلية عبر حوار حقيقي مع الحركات المسلحة، وتستلهم تجارب العدالة الانتقالية لإعادة الثقة بين المجتمع والدولة.
4. دور دبلوماسي متوازن يحافظ على استقلال القرار الوطني، ويقلّل من تأثير الحسابات الإقليمية على الشأن الداخلي، مع تعزيز الشراكات التي تدعم التحول الديمقراطي والتنمية المستدامة.
لقد أثبت التاريخ السوداني أن الانقلابات لا تصنع استقرارًا، وأن الديمقراطية لا تنجح إن لم تتوفر لها بيئة سياسية ناضجة، ومؤسسات قوية، وثقافة مجتمعية داعمة. فلا العسكر قادرون على بناء دولة مدنية، ولا القوى المدنية التقليدية استطاعت وحدها تقديم مشروع وطني جامع يحظى بثقة الجميع.
ما يحتاجه السودان اليوم ليس مجرد تداول للسلطة أو تغيير للوجوه، بل إعادة صياغة الدولة السودانية على أسس جديدة: أسس تُبنى على الاعتراف بالتعددية، وضمان تكافؤ الفرص، والعدالة في توزيع السلطة والثروة، وبناء مؤسسات فاعلة وشفافة لا تخضع للولاءات الضيقة. إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تجاوز الأزمة السياسية الراهنة، بل في تحويل الإرادة الشعبية التي تجلت في الشوارع إلى مشروع عملي متكامل: سياسي، واقتصادي، ومؤسسي، يعيد للسودان عافيته، ويؤسس لمستقبل يتصالح فيه الوطن مع ذاته، ويتجاوز أزماته المتكررة نحو سلام عادل وتنمية مستدامة.
فقط عندما تتوفر الإرادة الجادة، والقيادة المستنيرة، والوعي الجمعي الحاضر، يمكن للسودان أن يكتب فصله القادم على أساس من السلام والتقدم والكرامة الإنسانية.
شارك المقال