ثورة الاعتراف بالخبرة: دكتوراة للقابلة وماجستير للسبّاك!
Admin 2 أغسطس، 2025 127
حسن عبدالرضي الشيخ
كاتب صحفي
• في عالمٍ بدأ يُدرِك أن الشهادة ليست بالضرورة مرادفًا للعلم، وأن المعرفة لا تُختزل في الأوراق المختومة، تبرز فكرة ثورية عادلة: منح درجات علمية عليا للعاملين المهرة والمبدعين من غير الحاصلين على تعليم رسمي طويل، بعد فحص دقيق لأعمالهم ومساهماتهم.
فكرة قد تبدو للوهلة الأولى صادمة، بل غير منطقية، في مجتمعاتٍ ربطت الكفاءة لقرون بعدد السنوات الدراسية. لكنها في الواقع انتصار للعقل، وعدالة للخبرة، واعتراف بأن الحياة أحيانًا أفضل أستاذ من الجامعة.
من قال إن الماجستير حكرٌ على مقاعد الدراسة؟ في أوروبا وأمريكا وأستراليا، تنامت برامج الاعتراف بالتعلّم المسبق (Recognition of Prior Learning)، وهي مبادرات أكاديمية تمنح درجات رسمية (بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه) لمن امتلكوا خبرة عملية أو إبداعًا موثقًا يعادل محتوى البرامج الدراسية، دون أن يكونوا طلابًا تقليديين.
فلماذا لا يُمنح السبّاك المبدع، الذي ابتكر طريقة تقلل فاقد المياه في الأنابيب، درجة الماجستير في الهندسة التطبيقية؟
ولِمَ لا تُمنح القابلة المجتمعية، التي ساعدت آلاف الأمهات في أحلك الظروف، درجة الدكتوراه في الصحة المجتمعية؟
ولماذا لا يُكرَّم الشاعر الشعبي، الذي لم يتجاوز تعليمه المرحلة المتوسطة لكنه هزّ وجدان الملايين، بدرجة في الأدب الشعبي؟
أم أنكم ما زلتم تؤمنون بأن «شهادة الورق» أصدق من «شهادة الواقع»؟
وهل نُنكر جميعًا أن كثيرًا من حَمَلَة الشهادات خذلونا، بينما رفع الأميّون راية الإبداع والضمير؟
ما رأيكم عندما تتفوّق الحياة على الجامعة؟ في مجتمعاتنا، يقود التغيير الحقيقي أناسٌ لم يعرفوا الجامعات، بل عرفوا الحياة. صنعوا من الحفر والإزميل، ومن الخياطة والتوليد، ومن القصيدة والمقال، جسورًا من الإبداع والتأثير.
لم يكن لديهم وقت لصفوف المدرسة، لأنهم كانوا يصنعون فرقًا على الأرض.
وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى «منّة» أو «مجاملة»، بل إلى عدالة معرفية تُعيد التوازن بين من تعلّم على مقاعد الدراسة، ومن تعلّم في محراب الحياة.
هل من وسيلة إلى تعليم بديل… بمقاييس عادلة؟ فنحن بحاجة إلى سياسة تعليمية بديلة تعترف بقيمة الخبرة، وتؤمن بأن الإبداع لا بطاقة لهوية، ولا ختم من الوزارة.
ولتحقيق ذلك نحتاج إلى هيئات تقييم معترف بها لفحص وتوثيق الخبرات العملية. ومعايير صارمة للقياس تستند إلى أثر العمل وجودته لا عدد السنين الدراسية. ومسارات أكاديمية مرنة تقود إلى شهادات مستحقة لمن أثبتوا كفاءتهم. وقناعة ثقافية بأن الجامعة ليست الطريق الوحيد للعلم.
يكفي أن بلدنا السودان بلد مكبّل بشهاداته.
في بلدٍ تنهشه الحرب، وتنهار فيه مؤسسات التعليم، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الاعتراف بمن علّمهم الجوع، والنجارة، والمخاض، والنضال، والإبداع الشعبي.
كم من كاتبٍ، أو شاعرٍ، أو صحفيٍّ تنويريّ، أو طبيبةٍ تقليدية، يعيش بيننا دون أن يُلتفت إليه، بينما تُمنح الألقاب لمن لا يملكون إلا ورقة مختومة؟
نعم، نستطيع أن نبدأ هذا النهج.
لكن بشرط الصرامة في التقييم، والعدالة في المنح، والشفافية في الاختيار. لمنح العلم أهله، لا حملة أوراقه فقط. فلنمنح الدكتوراه لامرأةٍ علّمتها الممارسة ما لم تُدرّسه الكليات.
ولنعلّق الماجستير على جدار نجارٍ عبقري يقود ورشته كمهندسٍ محترف.
ولنُكرّم شاعرًا شعبيًا سجّل الوجدان الجمعي في قصائده كما لم يفعل عشرات الأكاديميين.
المعرفة لا تسكن
الشهادات وحدها… بل تسكن العقول الحرة، والأيدي العاملة، والقلوب التي تصنع الفرق.
فهل آن أوان الإنصاف؟
شارك المقال