د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى

كاتب صحفي

• النفير هو المشاركة الجماعية في العمل (التعاون)، وهو نشاط اخترعه القرويون لمساعدة بعضهم بعضاً، و(إيد لي إيد تجدع بعيد) هكذا يقول المثل، (وإنَّ يد الله مع الجماعة) كما جاء في الحديث. وهو نشاط جماعي  طوعي، يساهم في ربط علاقات الناس الاجتماعية، ويزيد من إنتاجهم، ويساعد الضعفاء وغير القادرين على العمل في مساواتهم مع الآخرين. والنفير يكون في أشياء كثيرة، أهمها في الزراعة، وبناء المنازل، وفتح الطرق.. وهكذا. 

ففي الزراعة، وخاصة الزراعة التقليدية، تتم  العمليات الزراعية التقليدية بالجهد البدني، ابتداءً من النظافة، وبذر البذور، مروراً بالحرث (تنظيف الزراعة من الحشائش الضارة)، وانتهاء بالحصاد (دق العيش) ونقل المحصول.      لذلك تبقى فكرة التعاون مهمة هنا. 

فـ (النفير) له طقوسه الخاصة، وأغنياته، وأكلاته، وترتيبه. يبدأ النفير بتحديد مكانه وزمانه، ويتقاطر الناس رجالاً ونساءً حاملين معهم أدوات العمل، ففي حالة (الحرث) يأتي كل واحد حاملاً (حشاشته) وهكذا.. وتلعب النساء في النفير أدواراً عدة.. فهنَّ يقمن بالعمل مع الرجال سوياً.. وهنَّ اللاتي يقمن بالغناء والزغراد لبث الحماسة في الرجال، ويقمن بإعداد الطعام، وهنَّ من يطلقن صفارة البداية بتلك الزغرودة وهكذا، ويجتهدن في إجادة هذه الأدوار بأفضل صورة، ويتحركن كالفراشات بين تلك الأعمال، وبتنسيق كامل دون إخلال بأي عمل. وجموع الرجال الممتلئين حماسة يتقافزون ويتسابقون في العمل، وكل يستعرض قوته ومهاراته، فالكل هنا فرسان في الحقل، والكل هنا صاحب الحقل، وعندما تنطلق زغرودة يفخر أحدهم ويهز ساعده (ويتنبّر) قائلاً (أبوكي يا فاطمة) (أبشري)، ثم يواصل العمل دون توقف وبحماسة، مؤكداً أحقيته بذلك الفخر، وهكذا يستمر العمل. وبعد انتهاء العمل يبدأ مهرجان احتفالي بالانتصار، وتبدأ عملية الرقص والغناء مستخدمين نفس الآلات الزراعية التي استخدمت في العمل، في الحقيقة لا يتوقف الغناء لحظة أثناء العمل، ولكنْ لكل لحظة غناؤها، فالغناء أثناء العمل يختلف عن الغناء بعده، الذي غالباً ما يكون مصحوباً بفخر. والرقص ليس ككل الرقص، ولا الغناء كباقي الغناء، إنّه رقص معيَّن يعرف بـ (القليب)، رقصة تصاحبها نشوة الانتصار وحلاوة النصر، حيث تصطف النساء يقابلهنَّ الرجال، وتبدأ محاكاة عملية الحرث. والغناء غالباً ما يكون (نجر أخضر)؛ أي ما تجود به القريحة في نفس الوقت تأليفاً وتلحيناً، يشكر فيه النساء والرجال على هذا المجهود الجبار. يليها تناول الطعام وغالباً ما يغدق صاحب المزرعة كرمه فيه حسب وضعه المادي.

قديماً كانت النفاير (جمع نفير) والأعراس تقدّم فيهما المريسة (خمر بلدي مصنوع من الذرة)، واسمها باللغة المحلية (أورد)، وهي جزء أساسي من النفير أو العرس، وكان لها روادها، وشعراؤها، من أشهرهم الشاعر (أبوقنطور)، وله قصص وحكاوي مع الخمر. 

فعندما قالوا له إنَّ الخمر (المريسة) حرام، استنكر ذلك قائلاً:

(دا حش ضريعاتنا وطحين أخواتنا،، وشن حرمو على بطيناتنا؟) 

أي هذا عيش زرعناه نحن، وقامت إخواتنا بطحنه، فكيف يحرم على بطوننا؟ 

(دي الموية والعيش،، والحرام دا جاء من كديش؟). 

هذه هي الماء والذرة،، ومن أين جاء الحرام؟ 

وعندما يحكم عليه القاضي ويجلد أربعين جلدة يردد:

(الشريعة تدُق… ونحن نبُق)، سوَّنَّها يا نسوان. 

أي الحكومة ستحكم لنا بالجلد،، ونحن سنشرب ولا نترك الشراب، فلا توقفن عمل المريسة. 

وعندما يأتي إليه الشيوخ (الفقرا) لهدايته يردد:

(شوفو الفكي وجنو… عاوز يوريني فنو) 

(يا حباب سيد المراسة.. صغير وكبير بي كاسا). 

وحتى بعض الشيوخ في الماضي كانوا يشربون نوعاً (مخففاً) من الخمر يسمَّى (ود أمبارح)، ولا حرج في ذلك، فـ (المريسة في البطن والقرآن في الرأس). 

هكذا ينتهي النفير ليبدأ آخر عند شخص آخر، يحدد زمانه ومكانه فيما بعد، وهكذا يتعاون الناس.

ومن حق أي فرد من المجتمع أن يعمل النفير، وفي الوقت الذي يحدده هو ويدعو الناس، وما على الناس إلا الاستجابة لذلك. ولكنْ هناك أنواع (خاصة) من النفير لظروف خاصة، نذكر منها: 

١/ نفير أبو مُرُوَّة: 

وهو نفير يقام للأشخاص الذين حدث لهم طارئ قبل الخريف، أو عذر خاص ومنعهم من القدرة على الزراعة، مثل المرضى والنساء في حالات الولادة  وغيرهم، فيجتمع أهل القرية أو الحي، ويعملون نفيراً خاصاً بأصحاب الأعذار كل على حدة، حتى لا يفوتهم الخريف. وأحياناً يكون محصول أصحاب الأعذار في الموسم أكثر من محصول الآخرين. 

٢/ نفير الصداقة: 

وهو أن يقوم  شخص ما بعمل نفير لصديقه  ويتحمل كل التكاليف. وما على الصديق إلا أن يحضر  إلى مزرعته فقط، ويأتي الناس ويعملون في زراعته حسب الموسم، سواء كان حرثاً، أو زرعاً، أو تنظيف الزراعة من الأشجار. 

وفي أحيان كثيرة يتم الانتهاء من الزراعة كلها في يوم واحد، ثم يساعدون في نظافة زراعات الجيران أيضاً، فعندما ينتهون من زراعة صاحب النفير، يقولون (أرحكم ندي يد أو يدين للجار)؛ أي هيا بنا لنساعد الجار أيضاً، وأحياناً وبهذه الطريقة يكونون قد انتهوا من زراعة أربعة أو خمسة من الجيران، خاصة عندما يكون الحماس عالياً. 

٣/ نفير المك، ونفير الشيخ: 

وهذا النفير يعمل لزراعة المك، وذلك لظروف المك الخاصة في تدبير أمور رعيته، واجتماعاته الكثيرة ومشغولياته، بالإضافة إلى ضيوفه وإكرامهم واحتياجاتهم؛ لذلك يجتمع الناس في كل قرية ويعملون نفيراً للمك، لتوفير القوت لحوشه وضيوف المملكة. ونفس الشيء ينطبق على شيخ الطين، وشيخ الدين.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *