ثغاء الذكريات … حينما تحملني أصوات الأنعام إلى مهد الطفولة والصبا

150
الصادق البديري

د. الصادق البديري

• في لحظة واحدة ، تكفي لحظة واحدة فقط، لتنهار كل الجدران التي بنيتها حول قلبي ، لحظة واحدة لتعود الروح إلى موطنها الأول ، تاركة الجسد يقف حائراً في ريف الرباط .

بينما تسافر هي بأجنحة الشوق إلى مشاريع والدي رحمة الله عليه في المقينص، تلك البقعة الطاهرة التي تقع على الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، حيث نبت قلبي وترعرعت أحلامي.

كان ثغاء صغار الضأن والماعز ينساب في الهواء كأنه لحن حزين من سيمفونية الريف المغربي، أصوات ناعمة تشكو البُعد عن أمهاتها ، تستغيث بصوت رقيق يخترق صمت المساء.

وها أنا أقف مسمراً في مكاني، وقلبي يرتجف مع كل ثغاء، وذاكرتي تفتح أبوابها المنسية على مصراعيها . هذا الصوت.. هذا الصوت البريء الذي طالما أيقظني فجراً في المقينص، عندما كانت الدنيا أبسط ، والقلب أطهر ، والعالم لم يفقد بعد معنى البراءة.

ثم جاء مواء صغار الأبقار ، ذلك النداء الحنون الذي يحمل في طياته كل معاني الحنين إلى الدفء والأمان ، صوت يشبه الدعاء، يشبه صرخة القلب الذي يبحث عن ملاذه الآمن.

وأنا هنا ، في هذه الأرض الطيبة ، أسمع نفس الأصوات التي كانت تملأ صباحات طفولتي ، لكنها اليوم تحمل طعم الفراق ولون الأسى.

رائحة الروث تتصاعد من الأرض كأنها عطر الذكريات المكتوم، رائحة الأرض النقية والحياة البسيطة التي لا تعرف التعقيد ولا التصنع.

منظرها الذي قد يبدو للبعض عادياً ، يحمل لي كل معاني الأصالة والعودة إلى الجذور، هذا هو عطر الطفولة ، عطر الأرض التي احتضنت أول خطواتي وأول كلماتي وأول أحلامي.

وهناك، في الحقول الجافة التي امتصت آخر قطرات الماء من حبات الذرة المحصودة ، ترعى الماشية في صمت وسكينة.

منظر يحبس الأنفاس في جماله البسيط ، يذكرني بتلك الأراضي الواسعة في المقينص حيث كانت ماشية والدي تجوب الحقول كأنها تكتب قصيدة حب على وجه الأرض بخطواتها الهادئة.

هناك ، في تلك البقعة المباركة من الأرض، كان كل شيء يتكلم بلغة الفطرة ، كانت الأصوات أعذب ، والروائح أطهر ، والمناظر أجمل .

كان والدي يمشي بين الماشية كأنه راعي أحلام ، وكنت أركض خلفه كأنني أطارد قطعة من السماء سقطت على الأرض.

اليوم، وأنا أقف في ريف الرباط ، تسرح روحي بعيداً ، تسافر عبر الزمن والمكان إلى تلك الأيام الخوالي.

دموعي تنهمر بغزارة ، مدراراً كأنها المطر الذي طال انتظاره ، تغسل وجهي وتطهر قلبي من ألم الفراق.

ومن حولي أرى وجوهاً حانية تحاول فهم ما يحدث لي، قلوباً طيبة تسعى لمواساتي دون أن تدرك أن ألمي أعمق من أن تصل إليه الكلمات.

يحاولون إغلاق صوت الفنان محمد الأمين الذي ينساب من راديو السيارة ، ظناً منهم أن الموسيقى هي التي أيقظت أحزاني .

لا يدركون أن هذا الصوت الجميل يحمل أيضاً ذكريات طفولتي، يلجؤون أحياناً إلى الصمت ، معتقدين أن السكوت سيخفف من وطأة الذكريات.

لكن كيف لهم أن يعلموا أن الصمت أيضاً كان رفيق أيامي في المقينص ؟ صمت الفجر عندما كان العالم ينهض من نومه على أصوات الديكة وثغاء الماشية ، صمت المساء عندما كانت النجوم تحكي أسرارها للأرض النائمة.

آه يا مقينص ، يا أرض الطفولة والأحلام ، يا موطن القلب والروح ، كم أشتاق إلى تلك الأيام البسيطة عندما كان السؤال الوحيد في ذهن الطفل الصغير هو : متى سيعود والدي من الحقل ؟ عندما كان أعظم فرح في الدنيا هو أن أركب على ظهر إحدى الأبقار ، أو أن ألعب مع صغار الماعز في الحظيرة.

اليوم   في هذا المساء الرباطي الجميل ، أدرك أن المسافات لا تُقاس بالكيلومترات ، وأن الأزمنة لا تُحسب بالسنوات.

فهناك مسافات تُقطع بخفقة قلب واحدة ، وهناك أزمنة تُطوى في لحظة حنين واحدة ، وها أنا ، رغم كل المسافات والسنوات ، ما زلت ذلك الطفل الذي يركض خلف والده في حقول المقينص ، يحلم بغد أجمل ووطن أكبر .

ولكن مهما طال المقام ومهما بعدت المسافات ، ستبقى تلك الأرض الطيبة نابضة في عروقي ، خافقة في قلبي، حية في ذاكرتي ، وستبقى أصوات ماشية والدي هي الموسيقى الأعذب في سمفونية عمري ، والذكرى الأجمل في قصة حياتي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *