ثريا قابل.. شاعرة تحلِّق بأجنحة الحب.. وتكتب بعبير الأزهار
Admin 13 سبتمبر، 2025 40
نجيب عصام يماني
كاتب صحفي سعودي
• من أزقة جدة القديمة، من بين الحجارة العتيقة والأبواب الخشبية التي تحمل عبق البحر، خرجت إلى الدنيا عام 1940 زهرة نادرة، هي الشاعرة ثريا محمد عبد القادر قابل. طفلة يتيمة الأب، لكن القدر اصطفاها بعمة رؤوم، احتضنتها في كنفها، فشبّت وهي تعرف أن الحرمان يصنع في القلب قوة، وأن الفقد قد يفتح للروح نافذة على الشعر. ومن تلك النافذة أطلّت ثريا على العالم، تحمل في وجدانها إصراراً أن تكتب، وأن تُعلن صوتها بلا خوف ولا مواربة.
رحلتها التعليمية حملتها من جدة إلى بيروت، حيث أكملت دراستها الثانوية، واطلعت على فضاءات أوسع للفكر والأدب. وحين أمسكت بالقلم، لم تختر التخفي أو الأسماء المستعارة كما فعلت كثير من بنات جيلها، بل أعلنت اسمها صريحاً، ووقّعت به أول دواوينها: «الأوزان الباكية» عام 1963. كان ذلك بمثابة صرخة أنثوية جريئة، تقول: إن للمرأة في هذا الوطن صوتاً، وإن للشعر حين يكتبه قلب أنثى أفقاً آخر يضيء.
ديوانها الأول كان نغمة مختلفة في الساحة الأدبية، لغة فصيحة مشبوبة بالعاطفة، تمزج بين حزن دفين ورغبة في الانعتاق. أثار جدلاً وجدالاً، لكن ثريا لم تتراجع، بل جعلت من النقد سُلّماً يعلو بها نحو آفاق جديدة. سرعان ما وجدت نفسها في عالم الأغنية الشعبية والغناء الحجازي، تكتب بلهجة صافية، خفيفة على الروح، محمّلة بعطر البحر ونكهة البن الحجازي، لتصبح بحق شاعرة جدة الأولى، ووجهها الغنائي المضيء.
وهكذا، انفتح قلبها للشراكة مع عمالقة الغناء: طلال مداح بصوته الماسي، وفوزي محسون بعذوبة ألحانه، ومحمد عبده بوهجه الطربي. كل واحد منهم وجد في كلمات ثريا سلسبيل حبٍّ لا ينضب، فراحوا يغنّونها بصدق، وتحوّلت أغنياتها إلى ألحانٍ تحفظها الذاكرة الجماعية في السعودية والخليج والعالم العربي.
من قصائدها التي لامست الوجدان:- «بشويش عاتبني»، «تمنيت من الله»، «إديني عهد الهوى»، و*«جاني الأسمر»*، وصولاً إلى الأغنية الخالدة «من بعد مزح ولعب»، التي كتبها قلبها العاشق ولحّنها محسون، فصارت واحدة من أيقونات الغناء العربي، عذبة في كلماتها، صادقة في بوحها، شفافة كالمطر حين يهمي على صحراء عطشى.
أما أغنيتها «بودي لو يكون الناس»، فهي قصيدة عشقٍ سماوي، تتمنى فيها أن يصبح وجود الناس كلهم رداءً يستر غيرة الحبيب، وأن يتحول العالم كله إلى فضاء يجمعها بمن تحب. إنّ كلماتها هناك تشبه نوارس البحر الأحمر حين تحلّق على الأمواج، تصرخ بالحب ولا تخاف أن تنكسر، تقول:-
«بودي لو يكون الناس
في أي مكان أنا وأنت
بدل ما احتار وأنت تغار
يا أغلى الناس يا كل الناس
يا ريت الناس أنا وانت…».
أيُّ صدق أعذب من هذا؟ وأيُّ حب أصفى من حبّ لا يخجل أن يعلن نفسه للكون كله؟
ما يدهش في شعر ثريا قابل هو تلك المعادلة النادرة بين بساطة المفردة وعمق الإحساس. فهي لا تبحث عن الزخارف اللغوية المعقدة، ولا تُغريها الألفاظ المنحوتة، بل تكتب كما لو أنها تنسج من خيوط الفجر نسيجاً أبيض، سلساً، يحيط بالقلب دون أن يجرحه. جرأتها لم تكن تحدياً صاخباً للمجتمع، بقدر ما كانت جرأة حبٍّ للحياة، وإيماناً بأن الجمال أرقى من أن يُكبت أو يُمنع.
في كلماتها، تجد المحلية الحجازية بروحها المميزة: رائحة الحارة، صوت البحر، ولهجة الناس، لكنها مع ذلك قادرة على أن تتجاوز الجغرافيا، فتصبح قصائدها أغاني عربية عامة، ترددها الشفاه في كل مكان. كانت جدة مدينتها، لكن صوتها كان وطنياً وإنسانياً في آنٍ واحد.
ثريا قابل ليست مجرد شاعرة غنائية؛ إنها أيقونة أنثوية، كتبت بمدادٍ من شوق وأنوثة وجرأة، ووقفت لتقول إن الفن ليس ترفاً، بل هو حياة بديلة، حياة موازية، نلجأ إليها حين تفيض قسوة العالم. بكلماتها، تعلمنا أن الحب هو أعظم قصيدة، وأن الغناء هو وسيلة الروح كي تتحرر وتطير.
هي فراشة حقاً، لكن فراشة من نور، لا تحترق بالنار، بل تصنع من ضوء الشموع شعراً، ومن دموعها أناشيد. وإذا كانت الفراشات تلتهم الرحيق، فإن ثريا قابل قد التهمت رحيق الحياة ذاتها، وحوّلته إلى قصائد، فبقيت أغانيها أريجاً متواصلاً، يعبق في فضاء الذكرى.
إننا ونحن نكتب عنها اليوم، لا نصف مجرد شاعرة أو غنائية، بل نصف امرأة أسطورية، جمعت بين صرامة الوعي ورهافة الإحساس، بين قوة الصوت وأنوثة البوح، بين جدة الصغيرة وفضاء العالم العربي الكبير. لقد جعلتنا نؤمن أن الشعر ليس حكراً على الرجال، وأن الكلمات حين تخرج من قلب امرأة عاشقة، تستطيع أن تسحر أمَّة بأكملها… ثريا قابل لم تكتب عن الحب فحسب؛ بل كانت الحب نفسه.
شارك المقال