• في خضم الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي يعاني منها السودان، تبرز الحاجة الماسة إلى مراجعة الأسس والمفاهيم الاقتصادية الأولى، لا سيما تلك التي وضعت اللبنات الأولى لعلم الاقتصاد الحديث. من هذا المنطلق، تأتي أهمية العودة إلى قراءة متأنية ومعاصرة لكتاب «ثروة الأمم» للمفكر الاسكتلندي آدم سميث، الذي يعتبره كثيرون الأب المؤسس لعلم الاقتصاد الكلاسيكي. ولد آدم سميث عام 1723، وبرز كمفكر اقتصادي وفيلسوف أخلاقي، وقدم عبر كتابه الشهير، الذي نُشر عام 1776، أطروحة متكاملة عن طبيعة الثروة وأسس نموها، حيث ناقش فيه مفهوم العمل والإنتاج، وتقسيم العمل، والسوق الحرة، ودور الدولة، وغيرها من الركائز التي ما تزال حاضرة في النقاش الاقتصادي حتى يومنا هذا.
في «ثروة الأمم»، ركّز سميث على أن العمل المنتج هو المصدر الحقيقي للثروة، وأوضح أن تقسيم العمل يؤدي إلى زيادة في الكفاءة والإنتاجية، مما يعزز رفاه المجتمعات. كما قدّم مفهوماً ثورياً في زمنه حول «اليد الخفية»، أي أن الأفراد، حين يسعون لتحقيق مصالحهم الشخصية ضمن سوق حرة، فإنهم يساهمون بشكل غير مباشر في تحقيق الصالح العام. هذه الرؤية المثالية للاقتصاد الحر ما تزال محل نقاش وجدل، لكن لا يمكن إنكار أنها شكّلت تحولاً في التفكير الاقتصادي، بعيداً عن التدخلية الصارمة التي كانت سائدة في العصور السابقة.
في ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده السودان، من تضخم مفرط، وانهيار في قيمة العملة، وارتفاع في معدلات الفقر والبطالة، تبدو العودة إلى أصول التفكير الاقتصادي ضرورة، لا ترفاً فكرياً. إن قراءة كتاب آدم سميث في هذا السياق لا تعني محاولة نسخ وصفات من القرن الثامن عشر على واقع معقّد في القرن الحادي والعشرين، بل تعني السعي لفهم منطلقات الاقتصاد ونشوئه، لاستخلاص مقاربات جديدة تُبنى على فهم دقيق لواقعنا وتاريخنا ومواردنا.
عندما نتمعّن في مفاهيم سميث حول حرية السوق، وتنظيم الإنتاج، وأهمية المؤسسات، نكتشف أن جزءاً من أزمة الاقتصاد السوداني يكمن في غياب بيئة مؤسسية تحفّز الإنتاج الحقيقي، وفي اختلال آليات السوق، وغياب المنافسة الحقيقية، وهيمنة الاقتصاد الموازي على النشاط الاقتصادي الرسمي. ولعل من أهم ما يمكن إسقاطه على الواقع السوداني هو الفشل في استغلال الإمكانات الزراعية والمعدنية والبشرية الهائلة، في ظل غياب سياسات إنتاجية واضحة، وانشغال الدولة بعائدات ريعية أو أنشطة غير منتجة.
إن الفائدة الكبرى من قراءة «ثروة الأمم» تكمن في تحفيزنا لإعادة التفكير في مفاهيم مثل الثروة، والإنتاج، والعدالة الاقتصادية، ودور الدولة، والأسواق. وهي دعوة لإعادة هيكلة الاقتصاد السوداني من الأساس، انطلاقاً من دعم القطاعات المنتجة، وبناء مؤسسات فاعلة، وتحقيق الشفافية، وربط السياسات الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية، تماماً كما دعا سميث إلى ربط الاقتصاد بالأخلاق والمصلحة العامة.
ختاماً، فإن ما يواجهه السودان من تحديات اقتصادية جذرية يتطلب عودة واعية وجادة إلى الأسئلة الأولى التي طُرحت في بدايات علم الاقتصاد، لا من باب الحنين للماضي، بل من باب استلهام منطق التحليل الاقتصادي الأصيل، لإيجاد حلول واقعية ومستدامة تنطلق من فهم واقعنا لا نسخه من تجارب الآخرين.