عمر غلام الله

عمر حسن غلام الله

قاص وكاتب صحفي

• لم أعد اسمع بقية الونسة وأنا مستلقٍ على ظهري فوق القوز الصغير، واضعا نعلاتي تحت يديّ، ويديّ تحت رأسي معلياً بذلك نظري ليكون فوق مستوى أصابع قدميّ لأرى في منتهى رؤيتي شريطاً من السواد الدامس- هو التحتانية- يحده من أعلى شريط من السواد أقل عتمة هو فضاء الليل البهيم فوق قريتنا (الركابية)، واتسعت حدقات عيوني حتى ألم بكامل الصورة وبأوسع مدى لها، راصداً أي دهمة تتحرك تحت النخيل أو فوق سور سبيقة عبد الجليل وهي أقرب سبيقة لجلستنا، وبدأت التهاويل تتحول إلى شكل لا أعرفه، رسمته في الخيال وحسب هيئة النخلة أو الشجرة التي بالكاد أراها في تلك الظلمة المخيفة، فأركز نظري في الشيء فيتضح أنه مجرد نخلة هزت سعفاتها الريح، ثم أركز عليها أكثر فيتجمد الدم في عروقي، لا بد أنه (تبيق).

وتسري البرودة في أطرافي، فأسحب قدمي مقرفصا ساقيَ تحتي أدفئهما، بل لأخفيهما، وكأن ذلك المخلوق سيمسكني منهما ويجرني إليه، إنه (سحّار) يجوب التحتانية في الليل، فيأكل ثمار المنقه في موسم المنقة، ويأكل التمر في موسم حش التمر، ويأكل الناس في كل المواسم.  وحسب ونسة الليلة فإن خضر الحاج وهو يقرع المويه في إحدى الليالي رآه يدخل النيل، وخديجة العربية قالت انه طاردها مرة بعيد المغرب بعد أن تأخرت في الجروف لحش القش لبهائمها، والبطان الذين كانوا يلعبون شليل في إحدى الليالي القمرية قالوا إنهم رأوه متجهاً نحوهم من جهة الخرابة التي بين التحتانية والبيوت، فولوا هاربين كلٌ إلى بيته. 

ورغم أن موضوع الونسة تغير إلى اتجاه آخر، إلا أنني لم أستطع التحول معهم لا بالحديث ولا بالمتابعة- إذ كان فكري مشغولاً بـ (تبيق) الذي يتراءى لي بين الفينة والفينة خارجاً من المجهول- تلك الدهمة التي تسمى التحتانية- كنت أصغر السامرين من أولاد وبنات الحلة، وكان مثل هذا اللقاء يتم عفويا في كثير من الليالي القمراء، وفي بعض التي يغيب فيها القمر، كما كانت عليه الحالة في هذه الليلة.

عندما أزف وقت العودة للبيوت حملت هماً ثقيلاً، ليس في كيفية وصولي إلى بيتنا، لأن بيتنا هو الأقرب لمجلسنا هذا، ولكن في كيفية العودة وحدي بعد توصيل علوية إلى بيت أهلها، ورغم أن بيتهم لا يبعد كثيراً عن بيتنا، إلا أنه لا بد من المرور بتلك السدرة الكثيفة، أي احتمال خروج (تبيق) من تحتها وارد! لا بد من إيجاد حيلة أو وسيلة اخرج بها من هذا الحرج، سيما وان علوية هذه بيني وبينها وداد، فلا يمكن أن اظهر لها أي نوع من الخوف أو الجبن، وإلا سقطت في نظرها.

تفرق الجمع كل باتجاه بيته، وأنا وعلوية سرنا باتجاه بيتينا، وعندما حاذيت بيتنا ادعيت أنني محصور وأنه لا بد لي من الدخول للبيت، وأن عليها انتظاري قليلا لأعود بعدها لإيصالها إلى بيت أهلها ونكمل ونستنا في الطريق، ولا أدري ماذا كنت سأفعل لو أنها وافقت على ذلك! إلا أنها أنقذتني بقولها إنها ستكمل المشوار وحدها وانه ليس هناك ما يدعوها للخوف. 

بس كنت دايره أكمّل معاك الونسة، لكن ما مشكلة نكملها بكره..

وحمدت الله، وبمجرد أن استدارت لتواصل سيرها كنت أنا في الثواني التالية تحت الغطاء، لا أدرى كيف دخلت من باب الحوش ولا كيف فتحته ولا كيف وصلت إلى العنقريب! 

الونسة ملحوقة، هي علوية ماشه وين؟ ترا كل يوم معاي، كان ما في القوز في التحتانية.

أقنعت نفسي بهذا التبرير، وقد تغلب الخوف في نفسي على متعة الونسة مع علوية.

مرت عدة أيام على تلك الليلة الليلاء، وبدأت انشغل عن (السحار تبيق).. وفي عصرية أحد الأيام نزلت للتحتانية كالمعتاد لحش القش من الجروف، فوجدت علوية هناك تجمع الوقود، فساعدتها في جمعه ونحن نمزح ونضحك ونتبادل عذب الكلام، ولم نحس بالوقت حتى بدأ الظلام يحل، وانتبهت لنفسي إذ أنني لم احش قش البهائم بعد، واستأذنت علوية وانصرفت لبيت أهلها، فأسرعت للجروف لأحش اللوبيا، وكان شبح تبيق يلح على مخيلتي بعيونه الحمراء التي هي جمرتين في أعلى رأسه، وذيله الطويل الذي يجره وراءه على الأرض، وأظافره الطويلة الحادة التي يحك بها الشعر الكثيف الذي يغطي جسده.

وأنا ارتجف بدأت في حش اللوبيا، التفت يمنة ويسرة، مرة تجاه النيل، ومرة تجاه النخيل، ورويدا رويدا بدأ كل شئ يختفي بعد أن أرخى الليل سدوله، وصار مدى رؤيتي لا يتعدى مترين أو ثلاثة حول محيطي، ولا أستطيع الرجوع إلى بيتنا إلا بقش يشبع البهائم، وإلا تعرضت لعقاب من أهلي.  

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *