تضخيم الخبر والادعاء بأن الضحايا ألف واختفاء قرية ترسين
Admin 6 سبتمبر، 2025 22
محجوب إبراهيم الخليفة
كاتب صحفي
• تُعدّ الأخبار في عصرنا الراهن سلاحاً ذا حدين؛ فهي من جهة وسيلة لتمليك المعلومة الصحيحة للرأي العام، ومن جهة أخرى قد تتحول إلى أداة خطيرة تُستخدم في صناعة الوهم وتزييف الوعي وخدمة أجندات خفية. وما جرى في حادثة الانزلاق الأرضي بقرية ترسين في منطقة جبل مرة، يمثّل نموذجاً صارخاً لهذه الممارسات الإعلامية التي لا تراعي المهنية، ولا تنطلق من حقائق ميدانية، بقدر ما تستبطن نوايا خبيثة وأهدافاً غير معلنة.
صناعة خبر ضخم من حادثة محدودة
فور انتشار أنباء الانزلاق الأرضي، سارعت بعض المنصات والقنوات إلى الحديث عن اختفاء قرية ترسين بأكملها، وزعمت أن عدد الضحايا قد بلغ الألف شخص، وهو رقم ضخم أثار الذعر داخل السودان وخارجه. لكن سرعان ما تبيّن أن هذه الأرقام لا تستند إلى أي مصدر موثوق، وأنها تضخيم مقصود يندرج ضمن ما يعرف بـ»الحرب النفسية». فالحادثة – وإن كانت مؤلمة – لم تتجاوز في حقيقتها وفاة شخصين فقط، كما أكد شهود العيان الموثوقون وأبناء المنطقة أنفسهم.
الأهداف الحقيقية وراء التضخيم
تضخيم الأحداث لا يأتي اعتباطاً، بل يقف وراءه مخططون يدركون جيداً قيمة «الصورة الذهنية» في توجيه الرأي العام. وفي حالة ترسين، يمكن رصد عدة أهداف رئيسية:
1- التغطية على جرائم ميدانية:
هناك من يرى أن حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وهو ابن المنطقة، سعت إلى توظيف الخبر لإخفاء جرائمها المتعلقة بـسرقة المعادن في جبل مرة. ويذهب هذا الرأي إلى أن ما حدث لم يكن انزلاقاً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة لاستخدام الديناميت في تفتيت الصخور من قبل مقاتلي الحركة، ما تسبب في انهيار محدود أصاب القرية التي ترقد تحت سفح الجبل.
2- استدعاء التدخل الدولي:-
وجهة نظر أخرى تشير إلى أن جهات خارجية داعمة لحركات التمرد ضالعة في تضخيم الحدث، بهدف تدويل القضية، ودفع المنظمات الدولية والدول الكبرى للمطالبة بفتح المنطقة والسماح بهبوط طائرات «إغاثة». لكن خلف ستار «العمل الإنساني» كان الهدف الحقيقي إنقاذ مليشيا التمرد، التي تعاني عزلة وتراجعاً ميدانياً، وتوشك على فقدان آخر معاقلها.
3- الحرب النفسية:-
تضخيم مثل هذه الأخبار يضرب في عمق الاستقرار النفسي والاجتماعي، ويزرع الرعب في نفوس المدنيين، كما يضعف ثقة المواطن في قدرة الدولة على إدارة الكوارث. إنها رسالة مُبطنة مفادها أن «الوضع خارج السيطرة»، في محاولة لإضعاف المعنويات وتفكيك اللحمة الوطنية.
صوت الحقيقة: تكذيب الشائعة
في خضم هذا الضجيج الإعلامي، كان لا بدّ من كلمة فاصلة. وهنا جاء دور الأستاذ الدكتور عثمان أبو زيد، أحد أبرز أساتذة الإعلام وخبرائه، الذي سارع بالتواصل مع أبناء المنطقة من المصادر الموثوقة. فكانت النتيجة واضحة:-
نعم، حدث انهيار أرضي.
نعم، وقعت خسائر بشرية.
لكن عدد الضحايا لم يتجاوز شخصين.
أما الحديث عن ألف قتيل واختفاء القرية بأكملها فمجرد شائعة كبرى لا أساس لها.
هذا الموقف العلمي والمسؤول أسهم في تبديد سحب التضليل، وأعاد القصة إلى حجمها الطبيعي بعيداً عن المبالغات والمكايدات السياسية.
الدرس المستفاد
تكشف حادثة ترسين عن الحاجة الملحة إلى:
تحري الدقة والموضوعية قبل تداول الأخبار.
تعزيز دور الإعلام المهني في كشف الأجندات الخفية وراء الأخبار الملفقة.
وعي الرأي العام بأن الحرب لم تعد بالسلاح وحده، بل باتت تدور رحاها في ميدان المعلومات والشائعات، حيث يمكن لخبر كاذب أن يُحدث من الأثر ما يفوق وقع الرصاص.
تضخيم حادثة الانزلاق الأرضي بقرية ترسين، والادعاء باختفاء القرية ومقتل ألف شخص، لم يكن سوى مثال على كيفية توظيف المآسي الإنسانية لخدمة حسابات ضيقة ومصالح سياسية معقدة. والحقيقة أن الضحايا كانوا شخصين فقط، لكن «ضحايا التضليل» كانوا بالآلاف ممن صدقوا الخبر الكاذب وانساقوا وراء دعايته.
وهكذا يظل الإعلام، حين يفقد ضميره المهني، أداة لتزييف الحقائق بدل أن يكون مرآةً صافية للواقع.
شارك المقال