• يُلقب السودان بـ«سلة غذاء العالم العربي»، نظرًا لمساحاته الزراعية الشاسعة وموارده الطبيعية الهائلة. لكن المفارقة أن هذا البلد الغني بالأرض والمياه يعيش اليوم أزمة غذائية خانقة، ويعتمد بشكل كبير على الاستيراد لتلبية احتياجاته الأساسية. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصلنا إلى هذه المفارقة الصارخة؟
الزراعة في السودان – رغم أهميتها التاريخية – تعاني من مشكلات متراكمة. فالبنية التحتية الزراعية متواضعة، والاعتماد لا يزال قائمًا على وسائل بدائية في الري والإنتاج. المشاريع الكبرى مثل الجزيرة والرهد لم تعد قادرة على إنتاج ما كانت تنتجه قبل عقود، وذلك بسبب الإهمال، وضعف التمويل، وانعدام الصيانة.
أما على الصعيد الصناعي، فالوضع لا يقل سوءًا. فالمصانع التي كانت في السابق تنتج السكر، والزيوت، والمنسوجات، والمنتجات الغذائية، إما توقفت، وإما أنها تعمل بأقل من نصف طاقتها. مشكلات الطاقة، تقادم الآلات، ونقص التمويل جعلت القطاع الصناعي ينهار تدريجيًا، حتى بات السودان يستورد منتجات كان يُفترض أن يُصدرها.
النتيجة المباشرة لهذا التراجع المزدوج في الزراعة والصناعة، هي فقدان فرص عمل واسعة، وانتشار البطالة، وارتفاع الأسعار. فالمواطن السوداني أصبح يشتري القمح والدقيق من الخارج في بلد يملك ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة. بل إن بعض الخضروات والفواكه تُستورد من دول لا تملك عُشر الموارد التي يمتلكها السودان!
المفارقة الأكبر أن السودان يصدر المواد الخام (كالقطن والصمغ العربي والماشية) بأسعار زهيدة، ثم يستورد منتجات مصنَّعة منها بأضعاف مضاعفة. وهذا ما يجعل الاقتصاد أسيرًا للتبعية الخارجية، بدل أن يكون قائمًا على القيمة المضافة والتصنيع المحلي.
الحلول هنا معروفة، لكنها تحتاج إلى قرار سياسي ورؤية استراتيجية واضحة.
أولًا: تحديث القطاع الزراعي عبر إدخال التكنولوجيا الحديثة، وتوسيع شبكات الري، وتشجيع المزارعين بالتمويل والتدريب.
ثانيًا: إحياء المشاريع الزراعية الكبرى وتطويرها، لتصبح قادرة على تغطية السوق المحلي والتصدير.
ثالثًا: إنعاش القطاع الصناعي بفتح المجال للاستثمار، وتوفير الطاقة، وحماية المصانع المحلية من الإغراق الخارجي.
إن إنقاذ الزراعة والصناعة يعني ببساطة إعادة تشغيل محرك الاقتصاد السوداني. فبدون إنتاج حقيقي وفعال في هذين القطاعين، سيظل السودان عالقًا في حلقة الاستيراد، والتضخم، والفقر. والوقت مناسب الآن أكثر من أي وقت مضى لاتخاذ خطوات جادة، تضع الإنتاج في قلب السياسات الاقتصادية.