تحقيق لـ (فرانس 24): شركة إماراتية تنقل قنابل أوروبية بلغارية إلى الدعم السريع في السودان
Admin 17 أبريل، 2025 76
متابعات – «فويس»
أظهرت مقاطع فيديو التقطت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 مقاتلين متحالفين مع الجيش السوداني بصدد مصادرة صناديق من قذائف هاون ذات منشأ أوروبي موجهة وفق تأكيدهم لقوات الدعم السريع، المليشيات السودانية شبه العسكرية التي تواجه الجيش في حرب نظامية مستمرة انطلقت في 15 نيسان/أبريل 2023، ونقلت إلى السودان على الرغم من الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على إرسال أسلحة إلى هذا البلد الذي مزقته الحرب الأهلية. هذا المقال هو الجزء الأول من تحقيق يضم خمسة أجزاء، يغوص في تفاصيل الرحلة المعقدة التي سلكتها هذه الأسلحة من الأراضي الأوروبية وصولا إلى ساحات المعارك في السودان.
ساهم في إعداد هذا المقال مبارك حسن علي ومحمد نور أودو
يشبه المشهد عملية جرد بضائع، ففي مقاطع فيديو نشرت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 على منصة تويتر وموقع فيس بوك، كان مقاتلون سودانيون يرتدون أزياء عسكرية، وهم جاثمون على ركبهم أو حتى على التراب، بصدد التثبت من عشرات بطاقات الهوية ومن صور شخصية وفوتوغرافية دينية. ينتمي هؤلاء الرجال إلى القوات المشتركة، وهي تحالف من جماعات عسكرية تنشط في إقليم دارفور الذي يقع غربي السودان. وتدعم هذه الجماعات المسلحة الجيش النظامي السوداني في الحرب الأهلية في مواجهة مليشيات قوات الدعم السريع.
وأظهرت مقاطع الفيديو لحظات مصادرة هؤلاء المقاتلين لموكب مكون من عدة عربات في قلب الصحراء. وفي هذه الصور، يبدو الذهول على وجوه هؤلاء المقاتلين. وأثناء تحققهم من جواز سفر، يقول هؤلاء المقاتلون بلغة الزغاوة، وهي لهجة محلية في إقليم دارفور: “إلي أي بلد ينتمون؟ انظروا، إنهم يهود يعملون لصالح منظمة دولية” ويضيف نفس الشخص وقد بدا أنه خلط بين صورة شخصية مسيحية كاثوليكية مقدسة مع إحدى الوثائق التي عثر عليها، قائلا: إنهم أناس مستعدون لفعل أي شيء، وحتى للموت في السودان… لقد جاءوا للدفاع عن قوات الدعم السريع” واتهم هذا الرجل في عدة مناسبات أصحاب هذه الوثائق الشخصية الذين يبدو أنه أصيبوا على الأرجح أثناء اعتقالهم على يد هذه الجماعة المسلحة بأنهم “مرتزقة”. ولم يظهر أي أسير أو جثة في هذه المقاطع.
وثائق الهوية التي تعود لهذين الشخصين من “المرتزقة” تم عرضها عدة مرات أمام آلة التصوير. وهو ما يسمح لنا بالإجابة على تساؤلات المقاتلين السودانيين: إذ أن جوازات السفر التي تم عرضها في مقاطع الفيديو تعود لمواطنَين من كولومبيا.

كما نرى عبر مقاطع الفيديو صناديق خشبية كبيرة: والتي ألصقت عليها لافتات برتقالية اللون تأخذ شكل المعين الهندسي والتي تنبه إلى وجود مواد متفجرة، وهي علامة متعارف عليها دوليا للإشارة إلى خطر الانفجار، كما تحتوي هذه الصناديق على ملصقات كرتونية أسطوانية الشكل كتب عليها باللغة الإنكليزية “ 81mm Mortar HE”.

في مقاطع الفيديو التي صورت، قام المقاتلون السودان في القوات المشتركة بإظهار الذخائر التي كان يحملها موكب السيارات عن قرب: ويمكن لنا أن نرى صناديق خشبية دهنت باللون الأخضر ووضع عليها ملصق “قابل للانفجار” وأسطوانات كرتونية تحمل ذخائر. وطبع على هذه الأسلحة باللون الأبيض عبارات تشير إلى طبيعتها: قذائف هاون شديدة الانفجار ( من طراز HE) من عيار 81 مليمتر.
“كل هذه الأسلحة كانت متوجهة إلى قوات الدعم السريع”
خلال عرضه لهذه الذخائر، وجه المقاتل في القوات المشتركة هذه الاتهامات: “هذه الأسلحة كانت متوجهة إلى الجنجويد. محمد بن زايد هو من أرسلها”. وعند ضربه بقبضته لعربة تمت مصادرتها، يوجه نفس الشخص الاتهامات التالية: “هذا أيضا، الإمارات هي التي قامت بإرساله”.
بعد مرور بضع ساعات، بدأت حركة تحرير السودان، وهي إحدى الحركات المسلحة المنضوية تحت لواء القوات المشتركة في إصدار بيانات رسمية عن هذه المصادرة الضخمة للأسلحة. ونتعرف على مزيد من التفاصيل التي دفعت شخصين أجنبيين إلى عبور صحراء دارفور مع هذه الذخيرة.
“في منطقة صحراوية، على حدود السودان مع ليبيا وتشاد، نجحت القوات المشتركة في كشف محاولة كبيرة لتهريب الأسلحة التي كانت متوجهة إلى مليشيا قوات الدعم السريع الإرهابية” وفق ما أوضحته هذه الحركة على صفحتها في فيس بوك. كما كشفت حركة تحرير السودان أيضا بأن “المرتزقة” كانوا يحملون قطعًا نقدية من الإمارات العربية المتحدة. ولم توضح هذه الحركة المسلحة ما إذا كان هؤلاء الرجال من الكولومبيين، والذين تتهمهم بأنهم مرتزقة، بعد أن قامت بأسرهم قبل أن تقتلهم أو تصيبهم.
وبفضل هذه الملفات المصورة من قبل مقاتلي القوات المشتركة، تمكن فريق تحرير مراقبون فرانس24 من إعداد تحقيق حول مسار هذه الأسلحة الظاهرة في مقاطع الفيديو. وتم التأكد من أن هذه الأسلحة تم تصنيعها في إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتم تصنيعها في بلغاريا واشترتها شركة إماراتية. وقبل دخولها إلى السودان وضبطها من قبل القوات المشتركة، قام الموكب بنقلها إلى شرق ليبيا، وهي منطقة يسيطر عليها جيش المشير خليفة حفتر المتحالف مع الإمارات العربية المتحدة. وكثيرا ما تواجه هذه الدولة الخليجية اتهامات من قبل خبراء في الأمم المتحدة بمساندة قوات الدعم السريع مالياً وعسكرياً خصوصا بهدف الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في هذه المنطقة. ولطالما نفت السلطات في الإمارات هذه الاتهامات.
أسلحة أوروبية تم تصنيعها في بلغاريا
وتشير اللافتات الكرتونية الملصقة على هذه الأسلحة إلى أنها تحتوي على قنابل هاون.
في هذا المقطع المصور الذي التقطه مقاتلون في القوات المشتركة في يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وفي الثانية الرابعة منه، نرى بشكل واضح العلامات الموجودة على هذه الاسطوانات الكرتونية التي وضعت داخلها الذخائر. وتشير هذه الملصقات إلى أن هذه الأسلحة تتمثل في “قنابل هاون عيار 81 مليمتر”.
“إنها ذخائر موجودة بشكل شامل في كل ساحات القتال خصوصا في السودان خلال العقود القليلة الماضية” وفق تأكيد مايك لويس المتخصص في النزاعات المسلحة والعضو السابق في مجمع الخبراء التابع للأمم المتحدة حول السودان. ويضيف مايك لويس قائلا: “قنابل هاون هي متفجرات يتم إلقاؤها إلى الأعلى من مدفع على شكل خرطوم، الذي يشكل منحنى في شكل جرس، ومن ثم تسقط على المواقع المستهدفة”
في أحد مقاطع الفيديو التي التقطها مقاتلون في القوات المشتركة في يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فتح الرجل الذي التقط المشهد أحد صناديق الذخائر، ونرى من خلال صوره شعارا مطبوعا باللون الأسود على الخشب “BG-RSE-0082-HT”.

هذا النقش بالحديد الأحمر هو عبارة عن شفرة ISPM-15 إشارة وجوبية على الصناديق الخشبية. ويشير الحرفان الأولان إلى بلد المنشأ “BG” وهي التي تتعلق ببلغاريا.
إليكم مؤشرا آخر عن البلد المنشأ الذي تم فيه إصدار هذه الملصق: وقد تمت كتابته باللغتين الإنكليزية والفرنسية، إلا أنها تحتوي على اسمين مكتوبين بالحروف الروسية. وتستخدم بلغاريا حروف الأبجدية الروسية: والاسمان الظاهران على الملصق يعودان لامرأتين تحملان لقبا دارجا على نطاق واسع في بلغاريا.

محتوى هذه الذخائر، التي كتبت بطريقة مشفرة على الأسطوانة الكرتونية التي حملتها، تسمح لنا بتحديد دقيق للطرف المصنع.

وتشير الشفرات تواليا إلى ما يلي: إم ـ 6 (M-6) هي عبارة عن نوع جهاز تفجير يسمح بتفجير الذخيرة. أما شفرة “81mm Mortar HE” فتشير إلى نوع الذخيرة في حد ذاتها: وهي قنبلة هاون من عيار 81 مليمتر شديدة الانفجار”، أما شفرة “1+3 increment charges” فتشير إلى وجود عدد كوابل إطلاق الذخائر، المتعارف عليها في هذا النوع من القنابل.
لكل واحد من هذه المنتجات الحربية رقم تسلسلي من ستة أرقام، يسمح لنا بتحديد الشركة المنتجة ومسارها التجاري. وكل واحد منها يبدأ بالرقم 46، وفق توضيح خبير في الأسلحة تواصل معه فريق تحرير مراقبون فرانس 24 الذي يؤكد بأن الرقم التسلسلي الذي يبدأ بالرقم 46 يشير إلى شفرة التعريف البلغارية، وإلى أن هذه الذخائر تمت صناعتها من قبل شركة “دوناريت Dunarit”البلغارية. أمام الرقم 19 الموجود في آخر الرقم التسلسلي فيشير وفق المصدر إلى تاريخ التصنيع، وهي سنة 2019، وهو ما يفسر المعلومات الموجودة على ملصقات الذخائر التي تم ضبطها في السودان.
على موقع شركة دوناريت، نتأكد من أن هذه الشركة البلغارية تقوم بالفعل بتصنيع قذائف شديدة الانفجار من عيار ٨١ مليمتر.

إضافة إلى ذلك، تسمح عملية بحث عبر صفحات الشركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالعثور على صور لقذائف هاون داخل صناديق خشبية، وبنفس شكل الصناديق الموجودة في مقاطع الفيديو التي تم التقاطها في السودان. ونرى نفس الشفرة ISPM-15 على صناديق الشركة. أما طريقة كتابة الرقم التسلسلي فهي نفسها المنقوشة على الذخائر التي تم العثور عليها في السودان.

المدير العام لشركة دوناريت لا ينفي بأن هذه الأسلحة تم إنتاجها في مصانعه
وعند اتصال فريق تحرير مراقبون فرانس 24 بع، لم ينف الرئيس المدير العام لشركة دوناريت بيتار بيتروف بأن قنابل هاون هذه قد تم تصنيعها في معامل شركة، ويوضح في اتصال هاتفي قائلا:
هناك مراقبة شديدة الصرامة على هذا النوع من البضائع في بلغاريا. وفق معلوماتي. كل ما وجد في هذا العقد [فريق التحرير: الذي سمح بتصدير هذه الأسلحة] تم وفق الضوابط القانونية”
إلا أن بيتار بيتروف لم يستطع أن يصدق في المقابل بأن قنابل شركته تم تصويرها في السودان ولا يقر بأن مقاطع الفيديو التي التقطها مقاتلون في صفوف القوات المشتركة تمثل دليلا على وجودها في البلاد
قنابل تنتهك حظر تصدير الأسلحة الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على السودان
ولكن كيف تم العثور على هذه القنابل التي تم تصنيعها في بلغاريا البلد العضو في الاتحاد الأوروبي في موكب تزويد أسلحة لصالح قوات الدعم السريع؟ إذ أن الاتحاد الأوروبي الذي تعد دولة بلغاريا أحد أعضائه يفرض منذ عام ١٩٩٤ حظراً شاملاً على تصدير الأسلحة إلى السودان. ووفق النسخة الحالية من قرار الحظر كتب ما يلي : “بيع وتزويد ونقل أو تصدير الأسلحة والمواد الملحقة، بما يشمل الأسلحة والذخائر… إلى السودان من قبل مواطنين في الدول الأعضاء في التكتل أو انطلاقا من أحد الدول الأعضاء”؟
نيكولاس مارش هو باحث متخصص في تصدير الأسلحة في معهد البحوث حول السلام ومقره أوسلو، يعلق قائلا:
حظر تصدير الأسلحة من الاتحاد الأوروبي إلى السودان ينطبق بشكل واضح على هذا النوع من الذخائر. إنها سياسة أوروبية شديدة الوضوح. وبالتأكيد توجد استثناءات، إلا أنني لا أرى كيف يمكن أن تتم عملية نقل أسلحة من هذا النوع إلى السودان من دون أن يتم التفطن إليها. إنه من دون شك انتهاك للسياسة الأوروبية في هذا المجال.
أما السلطات في بلغاريا فتؤكد بأن هذه الأسلحة لم يتم إرسالها بطريقة مباشرة من بلغاريا إلى السودان. وفي ردها على استفسارات فريق تحرير مراقبون عبر البريد الإلكتروني، فإن اللجنة الوزارية المشتركة حول مراقبة الصادرات، وهي الهيئة المكلفة في بلغاريا بإصدار تراخيص تصدير الأسلحة تؤكد بأن عملية البيع تمت “من خلال ترخيص تم مراقبته بصرامة إلى سلطة حكومية لا توجد ضدها أي عقوبات بحظر تصدير الأسلحة” وتؤكد الهيئة “بشكل قاطع بأن السلطة البلغارية المختصة لم تمنح أي ترخيص للتصدير في اتجاه السودان” لهذا النوع من الذخائر.
ومثلما ما تؤكده الأجزاء المقبلة من تحقيق فرير تحرير مراقبون، فإن الذخائر التي صنعتها شركة دوناريت البلغارية لم يتم بالفعل تصديرها بطريقة مباشرة إلى السودان. بل تم بيعها في المقابل إلى شركة إماراتية معروف على نطاق واسع بأنها تقوم بنقل أسلحة إلى مناطق خاضعة لعقوبات دولية بحظر تصدير الأسلحة وهي شركة إنترناشونال غولدن غروب International Golden Group.
انتقل إلى الجزء الثاني من التحقيق
شارك التحقيق