تحديث بيئة الأعمال في السودان كمدخل لعودة الأمل للمواطنين بعد الحرب

9
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• تمثل بيئة الأعمال الدعامة الأساسية لأي مشروع وطني للنهوض بعد الحروب، إذ تشكل المنصة التي من خلالها تتدفق الاستثمارات، وتنتعش الأنشطة الاقتصادية، وتُستعاد ثقة المواطنين والدولة على حد سواء. في الحالة السودانية، التي خرجت من حرب مدمرة أضعفت مؤسسات الدولة وأفقرت الملايين، تصبح إعادة بناء بيئة الأعمال ضرورة وطنية وليست مجرد خيار تنموي. لكن التحدي الأكبر يكمن في تصميم إصلاحات تتجاوز التقليدي، وتراعي واقع الانهيار المؤسسي، ونزيف الكفاءات، وفقدان الثقة العامة، مع الاستفادة من تجارب دول نجحت في إعادة بناء اقتصاداتها رغم تعقيدات ما بعد الحروب.

من التجارب الملهمة التي يمكن للسودان الاستفادة منها، التجربة العمانية في تحديث مناخ الاستثمار. لقد نجحت سلطنة عمان خلال السنوات الماضية في إدخال إصلاحات شاملة على القوانين التجارية والضريبية، سمحت بملكية أجنبية كاملة في قطاعات متنوعة، وسرّعت إجراءات تسجيل الشركات عبر بوابات إلكترونية مركزية، وأنشأت مناطق اقتصادية متخصصة تتمتع بإعفاءات ضريبية لمدد تصل إلى ثلاثين عامًا، إلى جانب سياسات تحفيزية لجذب الشركات الناشئة وتحويلها إلى شركات مساهمة. كما وضعت حوافز مباشرة مثل إعفاءات من رسوم الإدراج في السوق، وتسهيلات في التمويل، وسرعة في إنهاء المعاملات. هذه الإصلاحات لم تقتصر على الجوانب الإدارية، بل طالت القضاء التجاري، والضرائب، والسياسات المالية والجمركية، وأُسّست لها كيانات مستقلة ذات طابع احترافي وشفاف.

في السودان، ومع محدودية الموارد المالية وضعف المؤسسات، لا بد من التفكير خارج الإطار التقليدي. لا يكفي فقط إصلاح القوانين، بل يجب خلق واقع اقتصادي موازٍ يكون بمثابة «منطقة اختبار» لسياسات مرنة ومختلفة عن الممارسات البيروقراطية الحالية. يمكن مثلاً إطلاق مبادرة «مناطق عودة الأعمال» في المدن التي استقرت أمنيًا، وهي مناطق اقتصادية خاصة تعمل بقوانين جديدة كليًا، تتيح تأسيس الشركات إلكترونيًا خلال 48 ساعة، وتُعفى من الرسوم والضرائب لعدة سنوات، وتسمح للمهجرين بامتلاك أراضٍ ومشروعات بشروط ميسرة، وتربط كل العمليات بمنصات رقمية لا مركزية مدارة بشكل مستقل عن البيروقراطية العامة.

ولأن السودان يتمتع بجاليات واسعة ذات إمكانات مالية وخبرات في دول الخليج وأوروبا، يمكن للدولة أن تطلق «صكوك العودة الاستثمارية» وهي آلية تمويل مبتكرة تتيح للمغتربين شراء صكوك مقابل مزايا في المناطق الحرة، مثل الأراضي، والضرائب المخفضة، والأولوية في الدخول في العقود الحكومية أو المشروعات المدعومة من الدولة. كذلك، يمكن إنشاء بنك متخصص للمغتربين يُدار بطريقة شراكة بين القطاع الخاص والدولة، يوفر التمويل للمشاريع داخل السودان ويضمن تحويلات آمنة وعادلة، ويكون منصة لجذب أموال السودانيين بالخارج إلى فرص إنتاجية بدلًا من اقتصارها على تحويلات استهلاكية.

تعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد هما عنصران أساسيان لاجتذاب المستثمرين. يتطلب ذلك إصلاحات وتفعيل قضاء تجاري متخصص وسريع للفصل في المنازعات، وتشريعات صارمة تحمي المستثمرين وتحفظ حقوق الأقلية في الشركات، وتحد من التدخلات الإدارية غير المشروعة.  لذلك أحد التحديات الكبرى في السودان هو تطوير آلية بديلة وشفافة لحل النزاعات التجارية، مثل إطلاق «محاكم اقتصادية إلكترونية» تعتمد على منصات تكنولوجية لحل النزاعات بالتحكيم السريع خلال أيام، بعيدًا عن البيروقراطية المعتادة. يمكن أن تُدار هذه المحاكم بالشراكة مع نقابات قانونية أو مراكز تحكيم دولية، وتكون كل جلساتها مسجلة وعلنية رقمياً، مما يعزز الشفافية والثقة.

كذلك، من المهم أن يترافق إصلاح بيئة الأعمال مع تطوير البنية القانونية والاجتماعية للعمل، مثل إطلاق قانون عمل مرن يسمح بعقود مرنة، وتشجيع العمل الجزئي والعمل عن بعد، ما يساعد في إعادة دمج النساء والشباب والعائدين من النزوح في الدورة الاقتصادية. يمكن تبني نموذج يراعي العمل غير الرسمي ولكن يربطه تدريجيًا بالمنظومة الرسمية عبر محفزات، مثل التأمينات الاختيارية، والتسجيل عبر تطبيقات هاتفية توفر بيانات حقيقية عن النشاط الاقتصادي القاعدي.

هناك أيضًا فرصة لإنشاء مراكز أعمال مجتمعية في المدن المدمرة، تكون عبارة عن مجمعات إدارية مشتركة تُوفر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة مكاتب وخدمات لوجستية، وتُدار عبر شراكات بين السلطات المحلية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بحيث تتحول هذه المجمعات إلى نقاط إعادة الإعمار الاقتصادي المحلي.

ولا يقتصر أثر هذه الإصلاحات على استقطاب الاستثمارات الأجنبية فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة دمج ملايين السودانيين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد، وإتاحة الفرصة لهم للعودة إلى بيئة اقتصادية أكثر انفتاحًا وتنظيمًا. إن تأسيس مشاريع تجارية بسهولة ووضوح، والحصول على عائد مضمون ضمن بيئة منظمة وخاضعة للرقابة، يشكل حافزًا حقيقيًا للعودة والمشاركة في الإعمار.

ما يحتاجه السودان ليس مجرد تحسينات إجرائية، بل قفزة نوعية في طريقة التفكير. بيئة الأعمال ليست قوانين فقط، بل شبكة ثقة متبادلة، ونظام دعم، ومناخ مستقر، وشعور بالجدوى الاقتصادية. إعادة الأمل في البلاد تمر عبر خلق مساحات ممكنة للنجاح، وعبر إشراك كل من غادروا الوطن في بناء نموذج اقتصادي جديد لا يكرر أخطاء المركزية المفرطة والفساد، بل يعزز الشفافية والمشاركة.

إذا اختار السودان أن يستفيد من التجارب الإقليمية والعالمية، وأن يربطها بواقعه المحلي عبر حلول مبتكرة، فإن بيئة الأعمال يمكن أن تتحول من عبء إلى رافعة، ومن عائق إلى فرصة، ومن مجال للبيروقراطية إلى ساحة للنهضة. وعندها فقط، قد يجد الملايين من السودانيين المنتشرين في المنافي مبررًا واقعيًا للعودة، ليس فقط لأن الوطن يناديهم، بل لأنه بات يرحب بهم في بيئة عمل حديثة وعادلة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *