تبديل الرأي… جريمة سودانية!

223
محمد عبدالقادر

محمد عبدالقادر محمد أحمد

كاتب صحفي

• في السودان، لو جرّبت أن تقول رأياً اليوم وعدت لتعدّله غداً، ستجد من يقفز لك قائلاً: «أهااا… قلبت مويتك؟!» أو «دا زول ما عندو كلمة.. امبارح قال يسار واليوم يمين». وكأنما المطلوب من الإنسان أن يظل ثابتاً مثل تمثال النحاس، لا يتأثر بالزمن، ولا بالحجج ولا بالمعطيات الجديدة. بل الأعجب أن كثيرين عندنا يعتبرون ثبات الرأي حتى ولو كان باطلاً  فضيلة تُعادل الشجاعة، بينما تغييره ولو استند إلى العقل والبرهان عار لا يغتفر.

تاريخنا السياسي كله قائم على هذه العقدة: حزب يولد بشعار لا يجرؤ على تغييره حتى ولو انقرض أعضاؤه، وزعيم يطلق تصريحاً في الخمسينات، فيظل يردده حتى التسعينات وكأن الزمن توقف. السياسي عندنا إذا غيّر موقفه يُتهم بالخيانة، بينما إذا ظل واقفاً مكانه نصف قرن يُقال عنه «ثابت على المبدأ». ولا أحد يسأل: يا جماعة، أليس من حق العقل أن يتطور؟ أليس من الطبيعي أن تبدل قناعتك إذا تبدلت الوقائع؟

هذه النظرة في تقديري، ليست سوى بقايا من ثقافة التندر الشعبي، حيث يُصنّف المرء حسب لسانه أكثر من عقله. لكن الحقيقة البسيطة أن تبديل الرأي هو (عنوان العافية الذهنية)، وليس وصمة، فالعقل الذي لا يتبدل رأيه هو عقل مغلق، مثل نافذة صدئة لا يدخلها هواء جديد. بينما العقل الذي يسمح للحجة أن تغير مساره، أو للزمن أن يفتح أمامه باباً لم يره من قبل، هو عقل حي، يمارس ما خُلق لأجله: (التفكير). 

خذوا مثلاً الدين نفسه، وهو أقدس القضايا عند الناس: ألم يأتِ الإسلام مبدلاً لقناعات جذرية كانت مستقرة في الجاهلية، من عبادة الأصنام إلى التوحيد؟ ألم يكن كثير من الصحابة في ضفة ثم انتقلوا للضفة الأخرى بعد أن لاح لهم الحق؟ فهل عابهم أحد على تبديل المبدأ، أم جعل ذلك قصصهم أمثلة على الهداية والوعي؟

وفي السياسة، من يقرأ التاريخ يجد أن الزعماء الكبار لم يكونوا ثابتين على رأي واحد في كل الظروف. تشرشل  مثلاً، تنقل بين الأحزاب أكثر مما تنقل بين المكاتب، لا لأنه انتهازي كما قد يقول البعض عندنا، بل لأنه كان يرى أن المعطيات تغيّرت، وأن الموقف الذي كان صحيحاً بالأمس قد لا يكون كذلك اليوم. أما نحن في السودان، فالثبات صار قيمة في ذاته نفخر به، حتى لو كان على الباطل. تماماً كما يفخر الموظف الحكومي بأنه ظل جالساً في نفس المكتب ثلاثين سنة يكتب نفس الجملة «إلى مدير الإدارة.. للتكرم بالاطلاع».

إنني أرى أن الإنسان من حقه  (بل من واجبه) أن يبدل رأيه حين يجد ما هو أصدق وأرجح. لا فرق إن جاء التبديل بالحجة، أو بالزمن، أو بتراكم الخبرة، ولا عيب أن يبدل الإنسان رأيه إذا كشف له الزمن ما كان خافياً. العيب أن يتمسك بعقل الأمس وهو يعيش في اليوم، لأن ذلك ليس ثباتاً على المبدأ، بل جمود على العمى.

والفرق بين الاثنين… هو ما يجعل الأمم ترتقي، أو تبقى في صف الانتظار عند باب الموظف الذي لا يزال يقول: «تعال بكرة».

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *