ناجي الجندي

د. ناجي الجندي

كاتب صحفي

• أن يعود الكثيرون للبلاد من شتى بقاع الأرض بعد أن (خفت) الحرب لا يعني أنهم عادوا لجنة الله في الأرض، مستغنين عن مصر (أم الدنيا)، أو السعودية (بلد الحرمين)، أو الإمارات (زايد الخير)، أو أي دولة أخرى عاد منها السودانيون، نعم لم يعودوا لأنهم فضلوا عن هذه البلاد السودان، بل لأن التفاضل يكون فقط في إنه الوطن، الوطن الذي ليس فيه كهرباء ولا ماء ولا علاج ولا دفء ولا أكل ولا شرب، وطن أكثر ما يتوفر فيه بلا ثمن هو الأمراض والهموم والألم والجوع، لأنهم مستصحبين في ذلك قولهم (وطني ولا ملي بطني) ومستصحبين قول الشاعر:

بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ

الوطن لا تعادله أرض ولا سماء، ونخلص له، حتى كتب الهلالاب (الله الوطن الهلال)، وحتى كتب المريخاب (الله الوطن المريخ)، مشعرين القاعدة الرياضية أن بعد الله يأتي الوطن، ونظل نردد وطني لو شُغلت بالخُلدِ عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي كما قال أحمد شوقي، ولكن أي وطن يا هذا!؟

حين تعود لوطن يعتقلك شرطي لأنك (عاينت فيه شديد)، ويعتقلك سياسي لأنك نافسته في تجارته، ويعتقلك قاضٍ لأنك (كوز)، وتعتقلك (خلية) لأنك متعاون، ويعتقلك جنجويدي لأنك عسكري قديم، ويزج بك في السجن لأنك تكلمت عن المفسدين، وتعاديك لجان المقاومة لأنك انتقدتهم مرة، ويعاديك المعلمون لأنك أظهرت بعض عوراتهم على الملأ، وتعاديك المحليات لأنك رصصت بعض الخضار لتبيعه لأنك لم تدفع لهم الإتاوة، وتعاديك الوحدات الإدارية لأنكِ تبيعين الشاي دون دفع المعلوم، ويستفزك فرد أمن لأنكِ كامرأة لم تطيعي طلباتِه المسكوت عنها، وتُغلَق عليك أبوب 

حِراسات الدولة لأنك تخطيت بركشتك سيارة الشرطة، وتُحرم من رحلات الاتحاد العام لكرة القدم لأنك لم تصفق لعضويته في الصحف، وانتقدت سياساتهم من قبل، وتستعديك لجان الأحياء لأنك (بتعترض)، و(يكجنك) الصحفي لأنك وصفت مهنتهم ب(صحافة الفول)، ولا تعالجك المستشفيات إن لم تدفع، ولا تستقبلك المستوصفات لأنك مسكين، ولا تأخذ الدواء إن كنت معدماً، وتموت إن لم تجد مجموعة واتساب تجمع لك ما يعينك أو يعالجك أو يرفع الفاقة عنك،

في بلد يُرفع فيها الوضيع، ويُمجَّدُ فيها كبير الحلقوم المهللاتي، ويُوضَعُ فيها الرفيع لأنه واضح وصريح ويقول للأعمى أعمى.

بلد يرصف خروقاته (المجتمع المدني)، ويشتري إنارات الشوارع المواطنون، ويحرس أحياءه شباب الحي، بلد لا تخطيط، ولا دراسات، ولا تنمية ولا مشاريع، مهمة السياسي الصراع على السلطة، ومهمة السلطة فقط تغيير الوزراء من وزير لوزير، ومهمة الوزراء تعيين أقربائهم، ومهمة الأقرباء جمع الإتاوات، وصناعة الجمعيات الخيرية الوهمية، وأسماء شركات الغش والمتاجرة بحق الوطن، وطن تشتري فيه بكل ما جمعته في اليوم (خمس رغيفات)، وطن تجهد عمرك كله عشرات السنين لتفرح بشراء قطعة أرض، وطن ليس لك فيه بيت ولا مزرعة ولا غنيمات ولا مشاريع، لأنه أغلق الطريق أمامك، لأنه ليس مسموح للجميع هذا، وطن القانون فيه مصنوع لفئة دون فئة، بلد يستمد شرعية الحياة بالضراع أو الجيوب، فإن كنت من هؤلاء أو هؤلاء فأنت ابن الوطن.

كل هذا لأننا في وطن ليس فيه قانون، ووطن بلا قانون خيرٌ منه أن يضنيني ليل الغربة (حنيني إليك وليل الغربة أضناني) وكفى.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *